على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكملة لغيرها وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة .
وتشمل ( السماوات والأرض وما بينهما ) أصناف المخلوقات من حيوان وجماد فشمل الأمم التي على الأرض وما حل بها وشمل الملائكة الموكلين بإنزال العذاب وشمل الحوادث الكونية التي حلت بالأمم من الزلازل والصواعق والكسف .
والباء في ( إلا بالحق ) للملابسة متعلقة ب ( خلقنا ) أي خلقا ملابسا للحق ومقارنا له بحيث يكون الحق باديا في جميع أحوال المخلوقات .
والملابسة هنا عرفيه ؛ فقد يتأخر ظهور الحق عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخرا متفاوتا . فالملابسة بين الخلق والحق تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحق وخفائه ؛ على أنه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دل عليه قوله تعالى ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) .
والحق : هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشر والكمال والنقص والسمو والخفض في كل نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه وما يصلح هو له بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات فإذا لاح ذلك الحق الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالمر واضح وإذا لاح تخلف شيء عن مناسبة فبالتأمل والبحث يتضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة ثم لا يتبدل الحق آخر الأمر .
وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحق لها وهو من الحق أيضا فما كان إمهالها إلا حقا وما كان حلول العذاب بها إلا حقا عند حلول أسبابه وهو التمرد على أنبيائهم . وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطل الجزاء في الدنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة .
وموقع جملة ( وإن الساعة لآتية ) في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحق وأيقن به علم أن الحق لا يتخلف عن مستحقه ولو غاب وتأخر وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطل ظهور الحق في نصابه وتخلفه عن أربابه .
فعلم أن وراء هذا النظام نظاما مدخرا يتصل فيه الحق بكل مستحق إن خيرا وإن شرا فلا يحسبن من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعد عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقيها .
A E فلذلك أعقب الله ( وما خلقنا السماوات والأرض ) بآية ( وإن الساعة لآتية ) أي أن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم كما قال تعالى ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) . والمقصود من هذا تسلية النبي A على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم .
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حرية بالفصل وعدم العطف لأن حقها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقل اهتماما بمضمونها ولأنها تسلية للرسول A على ما يلقاه من قومه وليصح تفريع أمره بالصفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر .
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقق بها مراد الله من بقاء هذا الدين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إياه وحمله إلى الأمم .
والمراد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة . وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى ( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق أجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) في سورة الأحقاف .
وتفريع ( فاصفح الصفح الجميل ) على قوله تعالى ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) باعتبار المعنى الكنائي له وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيه A بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقيهم للدعوة