وقد تقدم آنفا قوله ( وإنها لبسبيل مقيم ) فإدخال مدينة لوط " عليه السلام " في الضمير هنا تأكيد للأول .
ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان وهما مدين وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم فإن إبراهيم " عليه السلام " أسكن ابنه مدين في شرق بلاد الخليل ولا يكون إلا في أرض مأهولة . وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيب " عليه السلام " باسم مدين مرات وباسم أصحاب الأيكة مرات . وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشعراء .
( ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 80 ] وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين [ 81 ] وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين [ 82 ] فأخذتهم الصيحة مصبحين [ 83 ] فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 84 ] ) جمعت قصص هؤلاء الأمم الثلاث : قوم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر في نسق لتماثل حال العذاب الذي سلط عليها وهو عذاب الصيحة والرجفة والصاعقة .
وأصحاب الحجر هم ثمود كانوا ينزلون الحجر " بكسر الحاء وسكون الجيم " . والحجر : المكان المحجور أي الممنوع من الناس بسبب اختصاص به أو اشتق من الحجارة لأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في صخر الجبل نحتا محكما . وقد جعلت طبقات وفي وسطها بئر عظيمة وبئار كثيرة .
والحجر هو المعروف بوادي القرى وهو بين المدينة والشام وهو المعروف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك ؟ .
وأما حجر اليمامة مدينة بني حنيفة فهي " بفتح الحاء " وهي في بلاد نجد وتسمى العروض وهي اليوم من بلاد البحرين .
وقد توهم بعض المستشرقين من الإفرنج أن البيوت المنحوتة في ذلك الجبل كانت قبورا وتعلقوا بحجج وهمية . ومما يفند أقوالهم خلو تلك الكهوف عن أجساد آدمية . وإذا كانت تلك قبورا فأين كانت منازل الأحياء ؟ .
والظاهر أن ثمود لما أخذتهم الصيحة كانوا منتشرين في خارج البيوت لقوله تعالى ( فأخذتهم الصيحة مصبحين ) . وقد وجدت في مداخل تلك البيوت نقر صغيرة تدل على أنها مجعولة لوصد أبواب المداخل في الليل .
وتعريف ( المرسلين ) للجنس فيصدق بالواحد إذ المراد أنهم كذبوا صالحا " عليه السلام " فهو كقوله تعالى ( كذبت قوم نوح المرسلين ) . وقد تقدم . وكذلك جمع الآيات في قوله ( آياتنا ) مراد به الجنس وهي آية النذاقة أو أريد أنها آية تشتمل على آيات في كيفية خروجها من صخرة وحياتها ورعيها وشربها . وقد روي أنها خرج معها فصيلها فهما آيتان .
A E وجملة ( وكانوا ينحتون ) معترضة . والنحت : بري الحجر أو العود من وسطه أو من جوانبه .
و ( من الجبال ) تبعيض متعلق ب ( ينحتون ) . والمعنى من صخر الجبال لما دل عليه فعل ( ينحتون ) .
و ( آمنين ) حال من ضمير ( ينحتون ) وهي حال مقدرة أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها . وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو .
ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال ( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) .
والفاء في ( فأخذتهم الصيحة ) للتعقيب والسببية . و ( مصبحين ) حال أي داخلين في وقت الصباح .
و ( ما كانوا يكسبون ) أي يصنعون أي البيوت التي عنوا بتحصينها وتحسينها كما دل عليه فعل ( كانوا ) . وصيغة المضارع في ( يكسبون ) لدلالتها على التكرر والتجدد المكنى به عن إتقان الصنعة . وبذلك كان موقع الموصول والصلة أبلغ من موقع لفظ ( بيوتهم ) مثلا ليدل على أن الذي لم يغن عنهم شيء متخذ للإغناء ومن شأنه ذلك .
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل [ 85 ] إن ربك هو الخلاق العليم [ 86 ] ) موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع . فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة ( وإن الساعة لآتية ) . والمراد ساعة جزاء المكذبين بمحمد A أي ساعة البعث . فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية وعلى الثاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر