ويحتمل أن تكون لذكر الفعل الثاني وهو ( وأتيناك ) خصوصية لا تفي بها واو العطف وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منها للفعل الذي تعلق هو به . فلما كان المتعلق بفعل ( جئناك ) أمرا حسيا وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون وكان ما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنى كالحقيقي إذ هو مجيء مجازي مشهور مسو للحقيقي أوثر فعل ( جئناك ) ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به ( ما كانوا فيه يمترون ) . وتكون الباء المتعلقة به للتعددية لأنه أجاءوا العذاب قوله تعالى ( بما كانوا فيه يمترون ) موقع مفعول به كما تقول " ذهبت به " بمعنى أذهبته وإن كنت لم تذهب معه ألا ترى إلى قوله تعالى ( فإما نذهبن بك ) أي نذهبك من الدنيا أي نميتك . فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية .
وأما متلق فعل ( أتيناك ) وهو ( بالحق ) فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق الإتيان بفعل الإتيان مادة المجيء إلى مادة الإتيان تنبيها على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق أعني المجيء المجازي . فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق أي الصدق وليس الصدق مسندا إليه الإتيان . فالباء في قوله تعالى ( بالحق ) للملابسة لا للتعددية .
والقطع " بكسر القاف وسكون الطاء " الجزء الأخير من الليل . وتقدم عند قوله تعالى ( قطعنا من الليل مظلما ) في سورة يونس .
وأمروه أن يجعل أهله قدامه ويكون من خلفهم فهو يتبع أدبارهم أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويها ببركة الرسول ( عليه السلام ) ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم . فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات لأنه يراقبهم . وقد مضى تفضيل ذلك في سورة هود وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب .
و ( حيث تؤمرون ) أي حيث تؤمرون بالمضي . ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج وهو مدينة عمورية كما تقدم في سورة هود .
( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 66 ] ) A E ( قضينا ) قدرنا وضمن معنى أوحينا فعدي ب ( إلى ) . والتقدير : وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه أي إلى لوط " عليه السلام " أي أوحينا إليه بما قضينا .
و ( ذلك الأمر ) إبهام للتهويل . والإشارة للتعظيم أي الأمر العظيم .
و ( أن دابر هؤلاء مقطوع ) جملة مفسرة ل ( ذلك الأمر ) وهي المناسبة للفعل المضمن وهو ( أوحينا ) . فصار التقدير : وقضينا الأمر وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع . فنظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله ( ذلك الأمر ) من الإبهام والتعظم .
ومجيء جملة ( دابر ) مفسرة مع صلوحية ( أن ) لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل ( أوحينا ) المقدر المضمن فتم ذلك إيجاز بديع معجز .
والدابر : الآخر أي آخر شخص .
وقطعه : إزالته . وهو كناية عن استئصالهم كلهم كما تقدم عند قوله تعالى ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) في سورة الأنعام .
وإشارة ( هؤلاء ) إلى قومه .
و ( مصبحين ) داخلين في الصباح أي في أول وقته وهو حال من اسم الإشارة . ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده ( فأخذتهم الصيحة مشرقين ) .
( وجاء أهل المدينة يستبشرون [ 67 ] قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون [ 68 ] واتقوا الله ولا تخزون [ 69 ] ) عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها .
ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لما علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه كما جاء في قوله تعالى ( قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) في سورة هود . والواو لا تفيد ترتب معطوفها .
ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل ( قال إنكم قوم منكرون ) أو الهاء في ( إليه ) ولا إشكال حينئذ . والمدينة هي سلوم .
و ( يستبشرون ) يفرحون ويسرون . وهو مطاوع بشره فاستبشر قال تعالى ( فاستبشروا ببيعكم ) في سورة براءة . وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح . وذلك أنهم علموا أن رجالا غرباء حلوا ببيت لوط " عليه السلام " ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة . وقد تقدمت القصة في سورة هود