ولعل ( تسنه ) بمعنى تغير من طول المدة أصله مطاوع سنة ثم تنوسي منه معنى المطاوعة . وقد تقدم قوله تعالى ( لم يتسنه ) في سورة البقرة .
والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذا أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة .
وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن وهو يعطي حرارة ضعيفة . ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفنة حيوانات مثل الدود ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفنة الحمى .
وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرت على مادة خلق الإنسان .
وتوكيد الجملة بلام قسم وبحرف ( قد ) لزيادة التحقق تنبيها على أهمية هذا الخلق وأنه بهذه الصفة .
وعطف جملة ( والجان خلقناه ) إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين آدم وجند إبليس .
وأكدت جملة ( والجان خلقناه ) بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكدت به جملة ( ولقد خلقنا الإنسان ) الخ .
وفائدة قوله ( من قبل ) أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجان أسبق لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة .
و السموم " بفتح السين " : الريح الحارة . فالجن مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقه الجن فكما كون الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان كون ريحا حارة وجعل منها الجن . فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قوية . والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب .
( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون [ 28 ] فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 29 ] فسجد الملائكة كلهم أجمعون [ 30 ] إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 31 ] قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين [ 32 ] قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [ 33 ] قال فاخرج منها فإنك رجيم [ 34 ] وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين [ 35 ] ) عطف قصة على قصة .
و ( إذ ) مفعول لفعل ( اذكر ) محذوف . وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف .
والبشر : مرادف الإنسان أي أني خالق إنسانا . وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقى الله فيهم من العلم أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى .
A E وإنما ذكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) .
والتسوية : تعديل ذات الشيء . وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح .
والنفخ : حقيقته إخراج الهواء مضغوطا بين الشفتين مضمومتين كالصفير واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دفعة واحدة . وليس ثمة نفخ ولا منفوخ .
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكونا سريعا دفعيا وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها .
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق . وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعا لطباع الأمزجة أو لإلف العادة ولا يؤبه في علم الله تعالى . وهذا هو ضابط وصف القذارة والنزاهة عند البشر