وقوله ( وما ننزله إلا بقدر معلوم ) أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم قال تعالى ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) في سورة البقرة إطلاقا مجازيا لأن ما خلقه الله لما كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني وهو علو معنوي . أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية وهذا كقوله تعالى ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) في سورة الزمر . وقوله تعالى ( يتنزل الأمر بينهن ) في سورة الطلاق .
والقدر " بفتح الدال " : التقدير . وتقدم عند قوله تعالى ( فسالت أودية بقدرها ) في سورة الرعد .
والمراد به ( معلوم ) أنه معلوم تقديره عند الله تعالى .
( وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 22 ] ) انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد .
والإرسال : مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان . وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية . وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا... .
و ( لواقح ) حال من ( الرياح ) . وقع هذا الحال إدماجا لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك " C " .
و ( لواقح ) صالح لأن يكون جمع لاقح وهي الناقة الحبلى . واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سببا في نزول المطر كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) .
وصالح لأن يكون جمع ملقح وهو الذي يجعل غيره لاقحا أي الفحل إذا ألقح الناقة فإن فواعل يجئ جمع مفعل مذكر نادرا كقول الحارث أو ضرار النهشلي : .
لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوايح روعي فيه جواز تأنيث المشبه به . وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه .
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطرا على الأرض ؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت وبدون ذلك تثبت أو لا تصلح . وهذا هو الإبار . وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة . وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر .
ومن بلاغه الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح وقد فسرت الآية بهما . واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر .
A E وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال : قال الله تعالى ( وأرسلنا الرياح لواقح ) فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه . ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت .
وفرع قوله ( فأنزلنا من السماء ماء ) على قوله ( وأرسلنا الرياح ) .
وقرأ حمزة ( وأرسلنا الريح لواقح ) بإفراد ( الريح ) وجمع ( لواقع ) على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد .
و ( أسقيناكموه ) بمعنى جعلناه سيقا فالهمزة فيه للجعل . وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقي .
واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفا ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) أي وما أنتم له بمحافظين ومنشئين عندما تريدون .
( وإنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون [ 23 ] ) لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياء الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية ولأن فيه دليلا على إمكان البعث . والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قدم . الإماتة للتكمل .
والجملة عطف على جملة ( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) للدلالة على القدرة وعموم التصرف .
وضمير ( نحن ) ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء . وأكد الخبر ب ( إن ) واللام وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلا للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة