وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من صحيح البخاري عن عائشة : أن ناسا سألوا رسول الله A عن الكهان فقال " ليسوا بشيء " أي لا وجود لما يزعمونه " . فقيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا . فقال رسول الله A : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة .
وما في تفسير سورة الحجر من صحيح البخاري من حديث سفيان عن أبي هريرة قال نبي الله A " إذا قضى الله الأمر في السماء " أي أمر أو أوحى " وضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله " فإنهم المأمورون كل في وظيفته " كالسلة على صفوان ينفذهم ذلك " أي يحصل العلم لهم . وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف " ... فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر " أي هي طبقات مفاوتة في العلو " . ووصف سفيان بيده نحرفها وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض " فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الكاهن او الساحر " فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة . فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء .
أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب . وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عمر " Bه " من صحيح البخاري .
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة . ولا محالة أنها مقربة بالمسموعات لأنها دلالة على عزائم النفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها .
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره والذي يحصل للكاهن كذلك . والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع .
( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون [ 19 ] وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [ 20 ] ) انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة .
وتقدم الكلام على معنى ( مددناها ) وعلى ( الرواسي ) في سورة الرعد .
والموزون : مستعار للمقدر المضبوط .
ومعايش : جمع معيشة . وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف .
A E ( ومن لستم له برازقين ) عطف على الضمير المجرور في ( لكم ) إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصل بضمير منفصل على التحقيق أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين أي لمن لستم له بمطعمين .
وما صدق ( من ) الذي يأكل طعامه مما في الأرض وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها الناس .
والإتيان ب ( من ) التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب .
ومعنى ( لستم له برازقين ) نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام . ومصدر رزقه الرزق " بفتح الراء " . وأما الرزق " بكسر الراء " فهو الاسم وهو القوت .
( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 21 ] ) هذا اعتراض ناشئ عن قوله ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) وهو تذييل .
والمراد بالشيء ما هو نافع للناس بقرينة قوله ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) الآية . وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى ( يأخذ كل سفينة غصبا ) أي سفينة صالحة .
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة . شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المكنية ورمز إلى الهيئة المشبه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن . وتقدم عند قوله تعالى ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) في سورة الأنعام .
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب في أحوال مخصوصة أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة