ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها . وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله ( يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ) .
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد منع عن الشياطين .
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاما لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هريرة " Bهما " من استراق الجن السمع وصفا للكهانة السابقة ويكون قوله ( ليسوا بشيء ... ) وصفا لآخر أمرهم .
وقد ثبت بالكتاب والسنة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله ( والشياطين كل بناء وغواص ) الآية . والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر ويخص باسم الشياطين نوع دابة الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة .
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض وأن منها أصنافا لها اتصال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر .
وبعض ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفا له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها فتسبق بعض النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد . وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أو الشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى ( إلا من استرق السمع ) . فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جراء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمة إلى التوجه إليه وحده فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقا ما فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها مما وراء الكرة الهوائية .
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلا .
A E ثم هذه التموجات التي تخلص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطعة مجملة فيستعين أصحاب تلك النفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألفوه وما أولوه . وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء وعلى مقدار دربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها . فهؤلاء هم الكهان . وكانوا كثيرين بين قبائل العرب . وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم . ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثرا ما وكان أقوامهم يعدون المعمرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم الله من مريديهم لا يصدرون إلا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للناس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلمات وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة .
وهم بحيلتهم واطلاعهم على مياذين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع وأنها أمارة صدق . وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة ويكثرون النظر في النجوم ليلا لتتفرغ أذهانهم . فهذا حال الكهان وهو قائم على أساس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة