وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع : الحمل الثور الجوزاء " مشتقة من الجوز " بفتح فسكون الوسط " لأنها معترضة في وسط السماء " السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت .
فاعتبروا لبرج الحمل شهر " أبريل " وهكذا وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذ في سمت شكل نجمي شبهوه بنقط خطوط صورة كبش . وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج . وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي .
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم .
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تخلف ملاحظة راصدها . وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى ( لتعلموا عدد السنين والحساب ) . ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة .
وأما قوله ( وحفظناها من كل شيطان رجيم ) فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال . وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة . فهو يرتبط بقوله ( وإنا له لحافظون ) .
وكانوا يقولون : محمد كاهن ؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحج إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادعى النبوءة . وقد عرضوا عليه أن يقولوا : هو كاهن فكان من كلام الوليد أن قال " ... ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه " قال تعالى ( ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) . وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب .
والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات . والشيطان تقدم في سورة البقرة .
والرجيم : المحقر لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا حصبوه بالحصباء كقوله تعالى ( قال فاخرج منها فإنك رجيم ) أي ذميم محقر .
A E والرجام " بضم الراء " الحجارة . قيل هي أصل الاشتقاق . ويحتمل العكس . وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة . قال جرير : .
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح ( قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ) . وعن أبي إبراهيم ( لئن لم تنته لأرجمنك ) . وقال قوم شعيب ( ولولا رهطك لرجمناك ) .
وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله ( فأتبعه شهاب مبين ) لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ) .
واستراق السمع : سرقته . صيغ وزن الافتعال للتكليف . ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه .
و ( أتبعه ) بمعنى تبعه . والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان . وتقدم في قوله تعالى ( فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) في سورة الأعراف .
والمبين : الظاهر البين .
وفيه تعليم لهم بان الشهب التي يشاهدونها متساقطة في السماء هي رجوم للشياطين المسترقة طردا لها عن استراق السمع كاملا فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه .
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه ؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فسادا في الأرض . وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتا فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمع وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح