والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة ( وإنا له لحافظون ) ؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر . فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل . ونظيره قوله في الآية الأخرى ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) .
والتعبير بصيغة المضارع في ( نسلكه ) للدلالة على أن المقصود أسلاك في زمن الحال أي زمن نزول القرآن ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله ( وقد خلت سنة الأولين ) أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم .
وفيه تعريض بان ذلك أعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم .
والمشار إليه بقوله ( كذلك ) هو السلك المأخوذ من ( نسلكه ) على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) في سورة البقرة .
والسلك : الإدخال . قال الأعشى : .
" كما سلك السكي في الباب فيتق أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه ؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به كما قال تعالى ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) .
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة .
فضمير ( نسلكه ) و ( به ) عائدان إلى ( الذكر ) في قوله ( إنا نحن نزلنا الذكر ) أي القرآن .
والمجرمون هم كفار قريش .
وجملة ( لا يؤمنون به ) بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به . وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم . والمراد أنهم لا يؤمنون وقتا ما .
A E وجملة ( وقد خلت سنة الأولين ) معترضة بين جملة ( لا يؤمنون به ) وجملة ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ) الخ .
والكلام تعريض بالتهديد بان يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره فكان الخبر مستعملا في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية .
والسنة : العادة المألوفة . وتقدم في قوله تعالى ( قد خلت من قبلكم سنن ) في سورة آل عمران . وإضافتها إلى ( الأولين ) باعتبار تعلقها بهم وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا والإضافة لأدنى ملابسة .
( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون [ 14 ] لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 ] ) عطف على جملة ( لا يؤمنون به ) وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم ( لو ما تأتينا بالملائكة ) وقولهم ( إنك لمجنون ) بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه لأن دلائل الصدق بينة ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة .
والكلام الجامع لإبطال معاذيرهم : أنهم لو فتح الله بابا من السماء حين سألوا آية على صدق الرسول A أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيلات وأنهم سحروا فرأوا ما ليس بشيء شيئا .
ونظيره قوله ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) .
و " ظل " تدل على الكون في النهار أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي .
والعروج : الصعود . ويجوز في مضارعه ضم الراء وبه القراءة وكسرها أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهارا .
و ( سكرت ) " بضم السين وتشديد الكاف " في قراءة الجمهور وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير . وهو مبني للمجهول على القراءتين أي سدت . يقال : سكر الباب بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سده .
والمعنى : لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئا