وشمل حفظه الحفظ من التلاشي والحفظ من الزيادة والنقصان فيه بأن يسر تواتره وأسباب ذلك وسلمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمة عن ظهور قلوبها من حياة النبي A فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي A وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر .
وقد حكى عياض في المدارك : أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البصري سئل عن السر في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له . فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) قال أبو الحسن بن المنتاب ذكرت هذا الكلام للمحاملي فقال لي : لا أحسن من هذا الكلام .
وفي تفسير القرطبي في خبر رواه عن يحيى بن أكثم : أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان : قال الله في التوراة والإنجيل ( بما استحفظوا من كتاب الله ) فجعل حفظه إليهم فضاع وقال عز وجل ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع اه . ولعل هذا من توارد الخواطر .
وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاضة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على مر الأزمان . وهذا من التحدي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزل من عند الله آية على صدق الرسول A لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف قال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
A E ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين [ 10 ] وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون [ 11 ] ) عطف على جملة ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) فإن جملة ( إنا نحن نزلنا الذكر ) قول بموجب قولهم ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر ) . وجملة ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ) إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة .
وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقر عند الأمم ومتحدث به بينهم .
وفيه أيضا تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول A .
والتأكيد بلام القسم و ( قد ) لتحقيق سبق الإرسال من الله مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ) . وذلك مقتضى موقع قوله ( من قبلك ) .
والشيع : جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد وتقدم ذلك عند قوله تعالى ( أو يلبسكم شيعا ) في سورة الأنعام . ويأتي في قوله تعالى ( ثم لننزعن من كل شيعة ) في سورة مريم أي في أمم الأولين أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم . فهذا وجه إضافة ( شيع ) إلى ( الأولين ) .
و ( كانوا به يستهزئون ) يدل على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم ف " كان " دلت على أنه سجية لهم والمضارع دل على تكرره منهم .
ومفعول ( أرسلنا ) محذوف دلت عليه صيغة الفعل أي رسلا ودل عليه قوله ( من رسول ) .
وتقديم المجرور على ( يستهزئون ) يفيد القصر للمبالغة لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول .
( كذلك نسلكه في قلوب المجرمين [ 12 ] لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين [ 13 ] ) استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله ( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل " عليهم السلام " كما قال تعالى ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )