وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا ( لوما تأتينا بالملائكة ) . أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول A فكان جوابهم مشوبا بطرف من الأسلوب الحكيم وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب فأراد الله أن لا يدخرهم هديا وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا .
والنزول : التدلي من علو إلى سفل . والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولا مخصوصا . وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على الكافرين كما أنزلوا إلى مدائن لوط " عليه السلام " . وليس مثل نزول جبريل " عليه السلام " أو غيره من الملائكة إلى الرسل " عليهم السلام " بالشرائع أو بالوحي . قال تعالى في ذكر زكرياء " عليه السلام " ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ) .
والمراد ب ( الحق ) هنا الشيء الحاق أي المقضي مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضي . وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام أي العذاب الحاق . قال تعالى ( وكثير حق عليه العذاب ) وبقرينة قوله ( وما كانوا إذا منظرين ) أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء " عليهم الصلاة والسلام " إلا مصاحبين للعذاب الحاق على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال . ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا .
A E ويفهم من هذا أن الله منظرهم لأنه لم يرد استئصالهم لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم .
ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين .
والأنظار : التأخير والتأجيل .
و ( إذا ) حرف جواب وجزاء . وقد سقطت هنا بين جزأي جوابها رعيا لمناسبة عطف جوابها على قوله ( ما تنزل الملائكة ) . وكان شأن ( إذن ) أن تكون في صدر جوابها . وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم ( لو ما تأتينا بالملائكة ) . وجملة ( ما تنزل الملائكة إلا بالحق ) مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب فقدم لأنه أوقع في الرد ولأنه أسعد بإيجاز الجواب .
وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم منظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاق . وهذا المعنى وارد في قوله تعالى ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ) .
وقرأ الجمهور ( ما تنزل ) بفتح التاء على أن أصله ( تتنزل ) .
وقرأ أبو بكر عن عاصم " بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة .
وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم وخلف ( ما ننزل الملائكة ) بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولي .
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 9 ] ) استئناف ابتدائي لإبطال جزاء من كلامهم المستهزئين به إذ قالوا ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر ) بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم ( لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) .
جاء نشر الجوابين على عكس لف المقالين اهتماما بالابتداء برد المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام ثم ثني العنان إلى رد تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة .
وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول A مجاراة لظاهر كلامهم . والمقصود الرد عليهم في استهزائهم فأكد الخبر ب ( إنا ) وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله ( قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .
ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء ؛ فجملة ( وإنا له لحافظون ) معترضة والواو اعتراضية .
والضمير المجرور باللام عائد إلى ( الذكر ) واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله