( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [ 46 ] ) A E يجوز أن يكون عطف خبر على خبر ويجوز أن يكون حالا من ( الناس ) في قوله ( وأنذر الناس ) أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم .
والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضماره . وتقدم في قوله تعالى ( ومكروا ومكر الله ) في سورة آل عمران وفي قوله ( أفأمنوا مكر الله ) في سورة الأعراف .
وانتصب ( مكرهم ) الأول على أنه مفعول مطلق لفعل ( مكروا ) لبيان النوع أي المكر الذي اشتهروا به فإضافة ( مكر ) إلى ضمير ( هم ) من إضافة المصدر إلى فاعله . وكذلك إضافة " مكر " الثاني إلى ضمير ( هم ) .
والعندية إما عندية علم أي وفي علم الله مكرهم فهو تعريض بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم وإما عندية تكوين ما سمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيدا بالجزاء على مكرهم .
وقرأ الجمهور ( لتزول ) " بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها " فتكون ( إن ) نافية ولام ( لتزول ) لام الجحود أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال وهو استخفاف بهم أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم وما هو بالذي تزول منه الجبال . وفي هذا تعريض بان الرسول A والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي .
وقرأ الكسائي وحده " بفتح اللام الأولى " من ( لتزول ) ورفع اللام الثانية على أن تكون " إن " مخففة من إن المؤكدة وقد أكمل إعمالها واللام فارقة بينها وبين النافية فيكون الكلام إثباتا لزوال الجبال من مكرهم أي هو مكر عظيم لتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول أي جديرة فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة . وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى ( يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام [ 47 ] ) تفريع على جميع ما تقدم من قوله ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) . وهذا محل التسلية . والخطاب للنبي A . وتقدم نظيره آنفا عند قوله ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) لأن تأخير ما وعد الله رسوله A من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده فلذلك نهي عن حسبانه .
وأضيف ( مخلف ) إلى مفعوله الثاني وهو ( وعده ) وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد فلذلك قدم ( وعده ) على ( رسله ) .
و ( رسله ) جمع مراد به النبي A لا محالة فهو جمع مستعمل في الواحد مجازا . وهذا تثبيت للنبي A بان الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به . فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مرادا من طاهر جمع ( رسله ) .
وجملة ( إن الله عزيز ذو انتقام ) تعليل للنهي عن حسبانه مخلف وعده .
والعزة : القدرة . والمعنى : أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به فالعزة تنفي الأول وكونه صاحب انتقام ينفي الثاني . وهذه الجملة تذييل أيضا وبها تم الكلام .
( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ 48 ] وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد [ 49 ] سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار [ 50 ] ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب [ 51 ] ) استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال ؛ فلك أن تجعل ( يوم تبدل الأرض ) متعلقا بقوله ( سريع الحساب ) قدم عليه للاهتمام بوصف ما يحصل فيه فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل .
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف تقديره : أذكر يوم تبدل الأرض وتجعل جملة ( إن الله سريع الحساب ) على هذا تذييلا .
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف دل عليه قوله ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) . والتقدير : يجزي الله كل نفس بما كسبت يوم تبدل الأرض . . الخ