ومعنى ( لا يرتد إليهم ) لا يرجع إليهم أي لا يعود إلى معتاده أي لا يستطيعون تحويله . فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم .
وقوله ( وأفئدتهم هواء ) تشبيه بليغ إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .
والهواء في كلام العرب : الخلاء . وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة .
( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) عطف على جملة ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) أي تسل عنهم ولا تملل من دعوتهم وأنذرهم .
والناس : يعم جميع البشر . والمقصود : الكافرون بقرينة قوله ( يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ) . ولك أن تجعل الناس ناسا معهودين وهم المشركون .
و ( يوم يأتيهم العذاب ) منصوب على أنه مفعول ثان ل ( أنذر ) وهو مضاف إلى الجملة . وفعل الإنذار يتعدى إلى مفعول ثان على التوسع لتضمينه معنى التحذير كما في الحديث " ما من نبي إلا أنذر قومه الدجال " .
وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه مجازا مرسلا .
والعذاب : عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا الذي هدد به المشركون و ( الذين ظلموا ) : المشركون .
وطلب تأخير العذاب إن كان مرادا به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب أي يقول الذين ظلموا : أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك . وهذا كما في قوله تعالى ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازا مرسلا بعلاقة الأول . والرسل : جميع الرسل الذين جاءوهم بدعوة الله .
وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى : أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم . فالتأخير على هذا حقيقة . والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد مجازا والمراد به محمد A .
والقريب : القليل الزمن . شبه الزمان بالمسافة أي أخرنا مقدار ما نجيب به دعوتك .
( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 44 ] وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال [ 45 ] ) لما ذكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف أي يقال لهم . وقد عدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه .
وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيها على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سألوه حذف إيجازا لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله . فالتقدير : كلا وألم تكونوا أقسمتم... الخ .
والزوال : الانتقال من المكان . وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب .
وحذف متعلق ( زوال ) لظهور المراد قال تعالى ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) .
وجملة ( مالكم من زوال ) بيان لجملة ( أقسمتم ) . وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يراع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل : ما لنا من زوال بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله ( أو لم تكونوا ) .
وهذا القسم قد يكون صادرا من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم .
ويجوز أن يكون ذلك صادرا من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم .
وكذلك الخطاب في قوله ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم . وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين .
والمراد بالسكنى : الحلول ولذلك عدي بحرف الظرفية خلافا لأصل فعله المتعدي بنفسه . وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن .
وتبين ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال .
وضرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل " عليهم السلام " ووصف الأحوال الخفية .
وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة