والرؤية : مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم وأما كون ذلك ملتبسا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق . فلما كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية . كقوله تعالى ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) .
والحق هنا : الحكمة أي ضد العبث بدليل مقابلته به في قوله تعالى ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
وقرأ الجمهور ( خلق ) بصيغة الفعل على أن ( السماوات ) مفعوله ( والأرض ) عطف على المفعول بالنصب .
وقراه حمزة والكسائي وخلف ( خالق السماوات والأرض ) بصيغة اسم الفاعل مضافا إلى ( السماوات ) ويخفض ( الأرض ) .
والخطاب في ( يذهبكم ) لجماعة من جملتهم المخاطب ب ( ألم تر ) . والمقصود : التعريض بالمشركين خاصة . تأكيدا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله ( لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسا آخرين .
وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجا للتعليم بالوعيد وإظهار لعظيم القدرة . وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم في الأرض .
وجملة ( وما ذلك على الله بعزيز ) عطف على جملة ( إن يشأ يذهبكم ) مؤكد لمضمونها وإنما سلك بهذا التأكيد مسلك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المشي سهل عليه هين كقوله ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) .
والعزيز على أحد : المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره .
( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص [ 21 ] ) عطف على جملة ( إن يشأ يذهبكم ) باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب وفي الكلام محذوف إذ التقدير : فأذهبهم وبرزوا لله جميعا أي يوم القيامة .
وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ويبرزون لله فقد دل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع مثل قوله تعالى ( أتى أمر الله ) .
والبروز : الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية . والمعنى : حشروا من القبور .
و ( جميعا ) تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيف .
وقد جيء في هذه الآية بوصف حال الفرق يوم القيامة ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم ومجادلة الجميع للشيطان وكون المؤمنين في شغل عن ذلك ينزل الكرامة . والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات . فالمقصود : التحذير مما يفضي إلى سوء المصير .
واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل ( برزوا ) إلى المجرور . يقال : برز لفلان إذا ظهر له أي حضر بين يديه كما يقال : ظهر له .
والضعفاء : عوام الناس والأتباع . والذين استكبروا : السادة لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة . والسين والتاء للمبالغة في الكبر . والتبع : اسم جمع التابع مثل الخدم والخول والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم .
A E وموجب تقديم المسند إليه على المسند في ( فهل أنتم مغنون عنا ) أن المستفهم عنه هو كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغناء عنهم لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم . كما تدل عليه حكاية قول المستكبرين ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا فتعين أن الاستفهام مستعمل في التورك والتوبيخ والتنكيت أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا . فالأيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي وبينه ما في نظيره من سورة غافر ( وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ) .
و ( من ) في قوله ( من عذاب الله ) بدلية أي غناء بدلا عن عذاب الله