والكلام على قوله ( ومن ورائه عذاب غليظ ) مثل الكلام في قوله ( من ورائه جهنم ) أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه .
والغليظ : حقيقته الخشن الجسم وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه . وتقدم عند قوله ( ونجيناهم من عذاب غليظ ) في سورة هود .
( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد [ 18 ] ) تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة . وقد أثار هذا التمثيل ما دل عليه الكلام السابق من شدة عذابهم فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالا من الصلة والمعروف : من إطعام الفقراء ومن عتق رقاب وقرى ضيوف وحمالة ديات وفداء أسارى واعتمار ورفادة الحجيج فهل يجدون ثواب ذلك ؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجه الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه فضرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات .
والمثل : الحالة العجيبة أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ . فالمعنى : حال أعمالهم بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مثل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام .
فقوله ( أعمالهم ) مبتدأ ثان و ( كرماد ) خبر عنه والجملة خبر عن المبتدأ الأول .
ولما جعل الخبر عن ( مثل الذين كفروا ) ( أعمالهم ) آل الكلام إلى أن مثل أعمال الذين كفروا كرماد .
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقا لا يرجى معه اجتماعه . ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه والهيئة المشبهة معقولة .
ووصف اليوم بالعاصف مجاز عقلي أي عاصف ريحه كما يقال : يوم ماطر أي سحابه .
والرماد : ما يبقى من احتراق الحطب والفحم . والعاصف تقدم في قوله ( وجاءتها ريح عاصف ) في سورة يونس .
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المجتمع لأن الرماد أثر لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعها بينهم وهو قرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم .
وقرأ نافع وأبو جعفر ( اشتدت به الرياح ) . وقراه البقية ( اشتدت به الريح ) بالإفراد وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس .
وجملة ( لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) بيان لجملة التشبيه أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها .
وجملة ( ذلك هو الضلال البعيد ) تذييل جامع لخلاصة حالهم وهي أنها ضلال بعيد .
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيته أي بعيد في مسافات الضلال فهو كقولك : أقصى الضلال أو جد ضلال وقد تقدم في قوله تعالى ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) في سورة النساء .
( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 20 ] ) A E استئناف بياني ناشئ عن جملة ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال : كيف تهلك فئة مثل هؤلاء ؟ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها فمبدأ الاستئناف هو قوله ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) .
وموقع جملة ( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ) موقع التعليل لجملة الاستئناف قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجدال على دليلها . وقد بيناه في كتاب أصول الخطابة .
ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في سوم عاصف .
والخطاب في ( ألم تر ) لكل من يصلح للخطاب غير معين وكل من يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين