وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعيد الكافرين وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) .
وقرأ الجمهور ( وعيد ) بدون ياء وصلا ووقفا . وقراه ورش عن نافع " بدون ياء " في الوقف وبإثباتها في الوصل . وقراه يعقوب " بإثبات الياء " في حالي الوصل والوقف . وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافا إليها في غير النداء . وفيها في النداء لغتان أخريان .
( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد [ 15 ] من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد [ 16 ] يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ [ 17 ] ) جملة ( واستفتحوا ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة ( فأوحى إليهم ربهم ) أو معترضة بين جملة ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) وبين جملة ( وخاب كل جبار عنيد ) . والمعنى : أنهم استعجلوا النصر . وضمير ( استفتحوا ) عائد إلى الرسل ويكون جملة ( وخاب كل جبار عنيد ) عطفا على جملة ( فأوحى إليهم ربهم ) الخ أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم ( لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) . ومقتضى الظاهر أن يقال : وخاب الذين كفروا فعدل عنه إلى ( كل جبار عنيد ) للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب .
ويجوز أن تكون جملة ( واستفتحوا ) عطفا على جملة ( وقال الذين كفروا لرسلهم ) ويكون ضمير ( استفتحوا ) عائدا على الذين ( كفروا ) أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك . ولكون في قوله ( وخاب كل جبار عنيد ) إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال : وخابوا إلى قوله ( كل جبار عنيد ) لمثل الوجه الذي ذكر آنفا .
والاستفتاح : طلب الفتح وهو النصر قال تعالى ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) .
والجبار : المتعاظم الشديد التكبر .
والعنيد : المعاند للحق . وتقدما في قوله ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) في سورة هود . والمراد بهم المشركون المتعاظمون فوصف ( جبار ) خلق نفساني ووصف ( عنيد ) من أثر وصف ( جبار ) لأن العنيد المكابر المعرض للحجة .
وبين ( خاف وعنيد ) ( وخاب كل جبار عنيد ) جناس مصحف .
وقوله ( من ورائه جهنم ) صفة ل ( جبار عنيد ) أي خاب الجبار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظة من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة .
والوراء : مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه كقوله تعالى ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لأفتك سفينتهم وقول هدبة بن خشرم : A E .
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب وأما إطلاق الوراء على معنى ( من بعد ) فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه .
والمعنى : أن جهنم تنتظره أي فهو صائر إليها بعد موته .
والصديد : المهلة . أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء لأن شأن الماء أن يسقى . والمعنى : ويسقى صديدا عوض الماء إن طلب الإسقاء ولذلك جعل ( صديد ) عطف بيان ل ( ماء ) . وهذا وجوه التشبيه البليغ .
وعطف جملة ( يسقى ) على جملة ( من ورائه جهنم ) لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم والتجرع : التكلف الجرع والجرع : بلع الماء .
ومعنى ( يسيغه ) يفعل سوغة في حلقة . والسوغ : انحدار الشراب في الحلق بدون غصة وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح يقال : ساغ الشراب وشراب سائغ . ومعنى ( لا يكاد يسيغه ) لا يقارب أن يسيغه فضلا عن أن يسيغه بالفعل كما تقدم في قوله تعالى ( وما كادوا يفعلون ) في سورة البقرة .
وإتيان الموت : حلوله أي حلول آلمه وسكراته قال قيس بن الخطيم : .
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها بقرينة قوله ( وما هو بميت ) أي فيستريح