وعلى تقدير أن يكون المراد ب ( الذين كفروا ) في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يرفون بها . وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهر الجمع فيكون هذا التوعد شنشنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله .
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر .
و ( أو ) لأحد الشيئين أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة أحدهما من فعل المقسمين والآخر من فعل من خوطب بالقسم وليست هي ( أو ) التي بمعنى ( إلى ) أو بمعنى ( إلا ) .
والعود : الرجوع إلى شيء بعد مفارقته . ولم يكن أحد من الرسل متبعا ملة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم . فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم . وكان الرسل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم فلما جاءوهم بالحق ظنوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه .
والظرفية في قوله ( في ملتنا ) مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه .
والملة : الدين . وقد تقدم عند قوله تعالى ( دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) في آخر سورة الأنعام وانظر قوله ( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) في أوائل سورة آل عمران .
وتفريع جملة ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) على قول الذين كفروا لرسلهم ( لنخرجنكم من أرضنا ) الخ تفريع على ما يقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم وهو الوعد بإهلاك الظالمين .
وجملة ( لنهلكن الظالمين ) بيان لجملة ( أوحى... ) .
وإسكان الأرض : التمكين منها وتخويلها إياهم كقوله ( وأورثكم أرضهم وديارهم ) .
والخطاب في ( لنسكننكم ) للرسل والذين آمنوا بهم فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها .
( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) ( ذلك ) إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من ( لنهلكن ولنسكننكم ) . عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور كقوله ( ومن يفعل ذلك يلق آثاما ) .
واللام للملك أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي كقوله تعالى ( ذلك لمن خشي ربه ) .
والمعنى : ذلك الوعد لمن خاف مقامي أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي فعدل عن ضمير الخطاب إلى ( من خاف مقامي ) لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية .
A E ومعنى ( خاف مقامي ) خافني فلفظ ( مقام ) مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله كقوله تعالى ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) لأن المقام أصله مكان القيام وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة فإذا قيل ( خاف مقامي ) كان فيه من المبالغة ما ليس في ( خافني ) بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه كما يقال : قصر في جانبي . ومنه قوله تعالى ( على ما فرطت في جنب الله ) . وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم : .
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة . ومنه ما في الحديث ( إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) أي هذا العائذ بك القطيعة .
وخوف الله : هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده .
وعطف جملة ( وخاف وعيد ) على ( خاف مقامي ) مع إعادة فعل ( خاف ) دون اكتفاء بعطف ( وعيدي ) على ( مقامي ) لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناء على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله ولولا ذلك لكانت جملة ( خاف مقامي ) تغني عن هذه الجملة فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثا قال تعالى ( ويستعجلونك بالعذاب ) ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة ( ذلك لمن خشي ربه ) لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة