وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ( الله يبسط ) تقوية للحكم وتأكيدا لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله . وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه الكشاف إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر .
والبسط : مستعار للكثرة وللدوام . والقدر : كناية عن القلة .
ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجها إليهم .
وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة فالفرح المذكور فرح بطر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون ( إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة . وهذا المعنى أفاده الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضا بقوله ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) .
والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها .
A E و ( في ) ظرف مستقر حال من ( الحياة الدنيا ) . ومعنى ( في ) الظرفية المجازية بمعنى المقايسة أي إذا نسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاع قليل وتقدم عند قوله ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) في سورة براءة .
والمتاع : ما يتمتع به وينقضي . وتنكيره للتقليل كقوله ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ) .
( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب [ 27 ] ) عطف غرض على غرض وقصة على قصة . والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضر في قولهم ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) . وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ) . فأعيدت تلك الجملة إعادة الخطيب كلمة من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل فإنه بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين . وكل ذلك لاحق بقوله ( وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد ) وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسول A ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة .
ولذلك تعين أن موقع جملة ( إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول A من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لولا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مهتدين لأن أسباب الهداية واضحة .
وتحت هذا التعجيب معان أخرى .
أحدهما : أن آيات صدق النبي A واضحة لولا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم .
الثاني : أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا . كما قال تعالى ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) .
الثالث : أن لعدم إيمانهم أسبابا خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله ( يضل من يشاء ) منها ما يومئ إليه قوله في مقابلة ( ويهدي إليه من أناب ) وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا . وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول " E " أن يجيب به عن قولهم ( لولا أنزل عليه آية من ربه ) بأن يقول ( إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مشار تعجب