وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضا للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا مما ينفع الناس وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) .
واكتفى بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شبه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه .
وجملة ( كذلك يضرب الله الأمثال ) مستأنفة تذييلية لما في لفظ ( الأمثال ) من العموم . فهو أعم من جملة ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال . وحصل أيضا توكيد جملة ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) لأن العام يندرج فيه الخاص .
فإشارة ( كذلك ) إلى التمثيل السابق في جملة ( أنزل من السماء ماء ) أي مثل ذلك الضرب البديع بضرب الله الأمثال وهو المقصود بهذا التذييل .
A E والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمثيل وما فيه من المواعظ والعبر وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية وإلى بلاغة القرآن وإعجازه وذلك تبهيج للمؤمنين وتحد للمشركين وليعلم أن جملة ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثل فيعلم الممثل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين فيكون الكلام قد تم عند قوله ( كذلك يضرب الله الأمثال ) كما هو شأن التذييل .
( للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ولافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 18 ] ) استئناف بياني لجملة ( كذلك يضرب الله الأمثال ) أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره .
فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين . ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى وأما المشركون فاعرضوا ولم يعقلوا الأمثال قال تعالى ( وما يعقلها إلا العالمون ) فكان جزاؤهم عذابا عظيما وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم . فمعنى ( استجابوا لربهم ) استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره .
وقوله ( الحسنى ) مبتدأ و ( للذين استجابوا ) خبره . وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله ( للذين استجابوا والذين لم يستجيبوا له ) إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين .
وتقديم المسند في قوله ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشان الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه وفي ذلك تنويه بها أيضا .
وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم . وتقدم نظير قوله ( لو أن لهم ما في الأرض جميعا ) في سورة العقود .
وأتي باسم الإشارة في ( أولئك لهم سوء الحساب ) للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة .
و ( سوء الحساب ) ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحاسب وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل .
( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب [ 19 ] ) تفريع على جملة ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) الآية . فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيها على غفلة الضالين عن عدم الاستواء كقوله ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) .
واستعير لمن لا يعلم أن القرآن حق اسم الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بين فأشبه الأعمى . فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل . والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العمى . ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة ( والذي أنزل إليك من ربك الحق ) إلى ( لا يؤمنون )