وهذا تمثيل آخر ورد استطرادا عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكة وهم المقصود فقد كان لهم في مكة صواعون كما دل عليه حديث الإذخر فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمثل ما يصهر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبدا ينتفي عنه وهو الخبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متعاعا . وفي الحديث " كما ينفي الكير خبث الحديد " . فالكلام من قبيل تعدد التشبيه القريب كقوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ثم قوله ( أو كصيب من السماء ) .
وأقرب إلى ما هنا قول لبيد : .
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها .
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع إسنامها وأفاد ذلك في هذه الآية قوله ( زبد مثله ) .
وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنه موضع اعتبار أيضا ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرق الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه .
A E وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي A في وصف جهنم " فإذا فيها كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان " .
وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى ( ومما توقدون عليه في النار ) لأنها أخصر وأجمع ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة . فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلا لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المعدنين مع ذكر الصلة إذ لا محيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد فكان الإتيان بالموصول قضاء لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع .
ولأن في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضا يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعا عن ولع الناس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف الناس .
و ( من ) في قوله ( ومما توقدون ) ابتدائية .
و ( ابتغاء حلية أو متاع ) مفعول لأجله متعلق ب ( توقدون ) . ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس . لشدة رغبتهم فيهما .
والحلية : ما يتحلى به أي يتزين وهو المصوغ .
والمتاع : ما يتمتع به وينتفع وذلك المسكوك الذي يتعامل به الناس من الذهب والفضة .
وقرا الجمهور ( توقدون ) " بفوقية في أوله " على الخطاب . وقراه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف " بتحتية " على الغيبة .
وجملة ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) معترضة . هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه أي مثل هذه الحالة يكون ضرب مثل للحق والباطل . فمعنى ( يضرب ) يبين ويمثل . وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ) في سورة البقرة .
فحذف مضاف في قوله ( يضرب الله الحق ) والتقدير : يضرب الله مثل الحق والباطل لدلالة فعل ( يضرب ) على تقدير هذا المضاف .
وحذف الجار من ( الحق ) لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف .
وقد علم أن الزبد مثل للباطل وأن الماء مثل للحق فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم وأن الفريق الثاني زائل بائد كقوله ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) فصار التشبيه تعريضا وكناية عن البشارة والنذارة كما دل عليه قوله عقب ذلك ( للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له ) الخ كما سيأتي قريبا .
فجملة ( فأما الزبد ) معطوفة على جملة ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) مفرعة على التمثيل . وافتتحت ب ( أما ) للتوكيد وصرف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة ولأنه تمام التمثيل . والتقدير : فذهب الزبد جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض .
والجفاء : الطريح المرمي . وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون