وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى ( إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) أي عذاب الدنيا وهو الرجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع و ( على ) في قوله ( على ظلمهم ) بمعنى " مع " .
وسياق الآية على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى اجل أراده الله أو إلى يوم الحساب وأن المراد بالعقاب في قوله ( وإن ربك لشديد العقاب ) ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك .
ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى ( فبظلمهم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) فلا تعارض أصلا بين هذا المحمل وبين قوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) كما هو ظاهر .
وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) .
وجملة ( وإن ربك لشديد العقاب ) احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضا بان العقاب حال بهم من بعد .
( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد [ 7 ] ) عطف على جملة ( ويستعجلونك بالسيئة ) الآية . وهذه حالة من أعجوباتهم وهي عدم اعتدادهم بالآيات التي تأيد بها محمد A وأعظمها آيات القرآن فلا يزالون يسألون آية كما يقترحونها فله اتصال بجملة ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
ومرادهم بالآية في هذا خارق عادة على حساب ما يقترحون فهي مخالفة لما تقدم في قوله ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) لأن تلك في تعجيل ما توعدهم به . وما هنا في مجيء آية تؤيده كقولهم ( لولا أنزل عليك ملك ) .
ولكون اقتراحهم آية يشف عن إحالتهم حصولها لجهلهم بعظيم قدرة الله تعالى سيق هذا في عداد نتائج عظيم القدرة كما دل عليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
فبذلك انتظم تفرع الجمل بعضها على بعض وتفرع جميعها على الغرض الأصلي . والذين كفروا هم عين أصحاب ضمير ( يستعجلونك ) وإنما عدل عن ضميرهم إلى اسم الموصول لزيادة تسجيل الكفر عليهم ولما يومئ إليه الموصول من تعليل صدور قولهم ذلك .
وصيغة المضارع تدل على تجدد ذلك وتكرره .
و " لولا " حرف تحضيض . يموهون بالتخضيض أنهم حريصون وراغبون في نزول آية غير القرآن ليؤمنوا وهم كاذبون في ذلك إذ لو أوتوا آية كما يقترحون لكفروا بها كما قال تعالى ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) .
وقد رد الله اقتراحهم من أصله بقوله ( إنما أنت منذر ) فقصر النبي A على صفة الإنذار وهو قصر إضافي أي أنت منذر لا موجد خوارق عادة . وبهذا يظهر وجه قصره على الإنذار دون البشارة لأنه قصر إضافي بالنسبة لأحواله نحو المشركين .
وجملة ( ولكل قوم هاد ) تذييل بالأعم . أي إنما أنت منذر لهؤلاء لهدايتهم . ولكل قوم هاد أرسله الله ينذرهم لعلهم يهتدون . فما كنت بدعا من الرسل وما كان للرسل من قبلك آيات على مقترح أقوامهم بل كانت آياتهم بحسب ما أراد الله أن يظهره على أيديهم . على أن معجزات الرسل تأتي على حسب ما يلائم حال المرسل إليهم .
ولما كان الذين ظهرت بينهم دعوة محمد A عربا أهل فصاحة وبلاغة جعل الله معجزته العظمى القرآن بلسان عربي مبين . وإلى هذا المعنى يشير قول النبي A في الحديث الصحيح ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فارجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
وبهذا العموم الحاصل بالتذييل والشامل للرسول A صار المعنى إنما أنت منذر لقومك هاد إياهم إلى الحق . فإن الإنذار والهدي متلازمان فما من إنذار إلا وهو هداية وما من هداية إلا وفيها إنذار والهداية أعم من الإنذار . ففي هذا احتباك بديع .
A E