قيل : إن يعقوب " عليه السلام " قال لهم : لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم .
( قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل [ 66 ] ) اشتهر الإيتاء والإعطاء وما يراد بهما في إنشاء الحلف ليطمئن بصدق الحالف غيره وهو المحلوف له .
وفي حديث الحشر " فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره " . كما أطلق فعل الأخذ على تلقي المحلوف له قال تعالى ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) و ( قد أخذ عليكم موثقا من الله ) .
ولعل سبب إطلاق فعل الإعطاء أن الحالف كان في العصور القديمة يعطي المحلوف له شيئا تذكرة لليمين مثل سوطه أو خاتمه أو أنهم كانوا يضعون عند صاحب الحق ضمانا يكون رهينة عنده . وكانت الحمالة طريقة للتوثيق فشبه اليمين بالحمالة . وأثبت له الإعطاء والأخذ على طريقة المكنية وقد اشتهر ضد ذلك في إبطال التوثيق يقال : رد عليه حلفه .
والموثق : أصله مصدر ميمي للتوثيق أطلق هنا على المفعول وهو ما به التوثيق يعني اليمين .
و ( من الله ) صفة ل ( موثقا ) و ( من ) للابتداء أي موثقا صادرا من الله تعالى . ومعنى ذلك أن يجعلوا الله شاهدا عليهم فيما وعدوا به بأن يحلفوا بالله فتصير شهادة الله عليهم كتوثق صادر من الله تعالى بهذا الاعتبار . وذلك أن يقولوا : لك ميثاق الله أو عهد الله أو نحو ذلك وبهذا يضاف الميثاق والعهد إلى اسم الجلالة كأن الحالف استودع الله ما به التوثق للمحلوف له .
وجملة ( لتأتنني به ) جواب لقسم محذوف دل عليه ( موثقا ) . وهو حكاية لقول يقوله أبناؤه المطلوب منهم إيقاعه حكاية بالمعنى على طريقة حكاية الأقوال لأنهم لو نطقوا بالقسم لقالوا : لنأتينك به فلما حكاه هو ركب الحكاية بالجملة التي هي كلامهم وبالضمائر المناسبة لكلامه بخطابه إياهم .
ومن هذا النوع قوله تعالى حكاية عن عيسى " عليه السلام " ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) . وإن ما أمره الله : قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم .
A E ومعنى ( يحاط بكم ) يحيط بكم محيط . والإحاطة : الأخذ بأسر أو هلاك مما هو خارج عن قدرتهم وأصله إحاطة الجيش في الحرب فاستعمل مجازا في الحالة التي لا يستطاع التغلب عليها وقد تقدم عند قوله تعالى ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) .
والاستثناء في ( إلا أن يحاط بكم ) استثناء من عموم أحوال فالمصدر المنسبك من ( أن ) مع الفعل في موضع الحال وهو كالإخبار بالمصدر فتأويله : إلا محاطا بكم .
وقوله ( والله على ما تقول وكيل ) تذكير لهم بأن الله رقيب على ما وقع بينهم . وهذا توكيد للحلف .
والوكيل : فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه وتقدم في ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) في سورة آل عمران .
( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 67 ] ) و ( قال يا بني ) عطف على جملة ( قال الله على ما نقول وكيل ) .
وإعادة فعل ( قال ) للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معا مسببين على إيتاء موثقهم لأنه اطمأن لرعايتهم ابنه وظهرت له المصلحة في سفرهم للإمتار فقوله ( يا بني لا تدخلوا من باب واحد ) صادر في وقت إزماعهم الرحيل . والمقصود من حكاية قوله هذا العبرة بقوله ( وما أغني عنكم من الله من شيء ) الخ .
والأبواب : أبواب المدينة . وتقدم ذكر الباب آنفا . وكانت مدينة " منفيس " من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب . وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم فيكون ذلك ضرا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف " عليه السلام " ودون قضاء حاجتهم . وقد قيل في الحكمة : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان