فهذا الذي استفتى يوسف عليه السلام في رؤيا الملك وصف في كلامه يوسف عليه السلام بمعنى يدل عليه وصف الصديق في اللسان العربي وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف عليه السلام في السجن .
فضم ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى ( وأمه صديقة ) في سورة العقود وإلى قوله ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) في سورة النساء .
وإعادة العبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلغ السؤال كما تلقاه وذلك تمام أمانة الناقل .
و ( الناس ) تقدم في قوله ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) في سورة البقرة .
والمراد ب ( الناس ) بعضهم كقوله تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) . والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعا ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم . وهذا وجه قوله ( لعلهم يعلمون ) مع حذف معمول ( يعلمون ) لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه .
( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون [ 47 ] ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [ 48 ] ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون [ 49 ] ) عبر الرؤيا بجميع ما دلت عليه فالبقرات لسنين الزراعة لأن البقرة تتخذ للإثمار . والسمن رمز للخصب . والعجف رمز للقحط . والسنبلات رمز للأقوات ؛ فالسنبلات الخضر رمز لطعام ينتفع به وكونها سبعا رمز للانتفاع به في السبع السنين فكل سنبلة رمز لطعام سنة فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديدا .
والسنبلات اليابسات رمز لما يدخر وكونها سبعا رمز لادخارها في سبع سنين لأن البقرات العجاف أكلت البقرات السمان وتأويل ذلك : أن سني الجدب أتت على ما أثمرته سنو الخصب .
وقوله ( تزرعون ) خبر عما يكون من عملهم وذلك أن الزرع عادتهم فذكره إياه تمهيد للكلام الآتي ولذلك قيده ب ( دأبا ) .
A E والدأب : العادة والاستمرار عليها . وتقدم في قوله ( كدأب آل فرعون ) في سورة آل عمران . وهو منصوب على الحال من ضمير ( يزرعون ) أي كدأبكم . وقد مزج تعبيره بإرشاد جليل لأحوال التموين والادخار لمصلحة الأمة . وهو منام حكمته كانت رؤيا الملك لطفا من الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السلام ووحيا أوحاه الله إلى يوسف عليه السلام بواسطة رؤيا الملك كما أوحى إلى سليمان عليه السلام بواسطة الطير . ولعل الملك قد استعد للصلاح والإيمان .
وكان ما أشار به يوسف عليه السلام على الملك من الادخار تمهيدا لشرع ادخار الأقوات للتموين كما كان الوفاء في الكيل والميزان ابتداء دعوة شعيب عليه السلام وأشار إلى إبقاء ما فضل عن أقواتهم في سنبله ليكون أسلم له من إصابة السوس الذي يصيب الحب إذا تراكم بعضه على بعض فإذا كان في سنبله دفع عنه السوس وأشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة فقال ( إلا قليلا مما تأكلون ) .
والشداد : وصف لسني الجدب لأن الجدب حاصل فيها فوصفها بالشدة على طريقة المجاز العقلي .
وأطلق الأكل في قوله ( يأكلن ) على الإفناء كالذي في قوله ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) . وإسناده بهذا الإطلاق إلى السنين إسناد مجاز عقلي لأنهن زمن وقوع الفناء .
والإحصان : الإحراز والادخار أي الوضع في الحصن وهو المطمور . والمعنى : أن تلك السنين المجدبة يفنى فيها ما ادخر لها إلا قليلا منه يبقى في الأهراء . وهذا تحريض على استكثار الادخار .
وأما قوله ( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس ) فهو بشارة وإدخار لمسرة الأمل بعد الكلام المؤيس وهو من لازم انتهاء مدة الشدة ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر .
و ( يغاث ) معناه يعطون الغيث وهو المطر . والعصر : عصر الأعناب خمورا .
وتقدم آنفا في قوله ( يعصر خمرا ) .
( وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم [ 50 ] )