وجملة ( لتنبئنهم بأمرهم هذا ) بيان لجملة ( أوحينا ) . وأكدت باللام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال . فعلى الأول فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس يوسف عليه السلام حين كيدهم له ويحتمل أنه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا ليوسف عليه السلام قبل النبوة رحمة من الله ليزيل عنه كربه فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له وإيذان بأنه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة وبأنه سينبي في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية وذلك يستلزم نجاته وتمكنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكن منهم وأمن من شرهم .
ومعنى ( بأمرهم ) : بفعلهم العظيم في الإساءة .
وجملة ( وهم لا يشعرون ) في موضع الحال أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى ( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ) الآيتين .
وعلى احتمال عود ضمير ( إليه ) على يعقوب عليه السلام فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة ( فلما ذهبوا به ) إلى آخرها ( وأوحينا إليه ) قبل ذلك . و ( لتنبئنهم ) أمر أي أوحينا إليه نبئهم بأمرهم هذا أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السلام إشعارا بالتعريض وذلك في قوله ( وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) .
وجملة ( وهم لا يشعرون ) على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك .
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف عليه السلام وقع في التوراة أنه في أرض " دوثان " ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا . والمراد : أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع . ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل . واتفق واصفو الجب على أنه بين " بانياس " و " طبرية " . وأنه على اثني عشر ميلا من طبرية مما يلي دمشق وأنه قرب قرية يقال لها " سنجل أو سنجيل " . قال قدامة : هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية .
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر . وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على " دوثان " وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق وفي هذه الطريق جباب كثيرة في " دوثان " . وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن .
( وجآءو أباهم عشاء يبكون [ 16 ] قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين [ 17 ] وجآءو على قميصه بدم كذب ) عطف على جملة ( فلما ذهبوا به ) عطف جزء القصة .
والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها .
والبكاء : خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر . وتقدم في قوله تعالى ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) . وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي . وإنما اصطنعوا البكاء تمويها على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السلام ولعلهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه وفي الناس عجائب من التمويه والكيد . ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة .
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكما وإنما يناط الحكم بالبينة .
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها فقيل له : أما تراها تبكي ؟ ! فقال : قد جاء إخوة يوسف عليه السلام أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة . لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق . قال ابن العربي : قال علماؤنا : هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعا . ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر .
قلت : ومن الأمثال ( دموع الفاجر بيديه ) وهذه عبرة في هذه العبرة .
A E