وقد عدت المرائي النومية في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السالفة مثل الحنيفية . وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق وأبو علي ابن سينا في الإشارات بما حاصله : وأصله : أن النفس الناطقة " وهي المعبر عنها بالروح " هي من الجواهر المجردة التي مقرها العالم العلوي فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول وأنها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة وأن للنفس الناطقة آثارا من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسه المشترك وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان : أحدهما حسي خارجي والآخر باطني عقلي أو وهمي وقوى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتد بعضها ضعف البعض الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة فكذلك إن تجرد الحس الباطن للعمل شغل عن الحس الظاهر والنوم شاغل للحس فإذا قلت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلص النفس عن شغل مخيلاتها فتطلع على أمور مغيبة فتكون المنامات الصادقة .
والرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتنصل نفوسهم بتعلقات من علم الله وتعلقات من إرادته وقدرته وأمره التكويني فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزمان قبل وقوعها أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعا عاديا . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبو " . وقد بين تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث . وقال : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له " .
وإنما شرطت المرائي الصادقة بالناس الصالحين لأن الارتياض على الأعمال الصالحة شاغل للنفس عن السيئات ولأن الأعمال الصالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه وبعكس ذلك الأعمال السيئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها .
والرؤيا مراتب : منها أن : ترى صور أفعال تتحقق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل وظنه أن تلك الأرض اليمامة فظهر أنها المدينة ولا شك أنه لما رأى المدينة وجدها مطابقة للصورة التي رآها ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكتشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة فعلم أن سيتزوجها . وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية .
ومنها أن ترى صور تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء إلا أن هذا تخترعه الألباب في حالة هدو الدماغ من الشواغل الشاغلة فيكون أتقن وأصدق . وهذا أكثر أنواع المرائي . ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب من قدح لبن رأى الري في أظفاره ثم أعطى فضله عمربن الخطاب Bه . وتعبيره ذلك بأنه العلم .
وكذلك رؤيا امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة فعبرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة وأن فيها عمودا وأن فيه عروة وأنه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود فعبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى وأن الروضة هي الجنة فقد تطابق التمثيل النومي مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .
وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى ( وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) .
( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين [ 5 ] ) جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات . وقد تقدمت عند قوله تعالى ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) في سورة البقرة .
A E