ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على اتباع دين الحق كما يدل عليه السياق فآل المعنى إلى : لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملة واحدة فكانوا أمة واحدة من حيث الدين الخالص .
وفهم من شرط ( لو ) أن جعلهم أمة واحدة في الدين منتفية أي منتف دوامها على الوحدة في الدين وإن كانوا قد وجدوا في أول النشأة متفقين فلم يلبثوا حتى طرأ الاختلاف بين ابني آدم عليه السلام لقوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) وقوله ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) في سورة يونس ؛ فعلم أن الناس قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمة واحدة ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتفاق في الدين فأعقب ذلك بأن الاختلاف دائم بينهم لأنه من مقتضى ما جبلت عليه العقول .
ولما أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل لأن الحق لا يقبل التعدد والاختلاف عقب عموم ( ولا يزالون مختلفين ) باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله ( إلا من رحم ربك ) أي فعصمهم من الاختلاف .
A E وفهم من هذا أن الاختلاف المذموم المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين وإن كان يزعم أنه من متبعيه فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة فإن لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة وكما فعل علي كرم الله وجهه في قتال الحرورية الذين كفروا المسلمين . وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف .
وأما تعقيبه بقوله ( ولذلك خلقهم ) فهو تأكيد بمضمون ( ولا يزالون مختلفين ) . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله ( مختلفين ) واللام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به كما بيناه آنفا كان الاختلاف علة غائية لخلقهم والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قوله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) لأن القصر هنالك إضافي أي إلا بحالة أن يعبدوني لا يشركوا والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الرد عليه بالقصر كما هو بين لمن مارس أساليب البلاغة العربية .
وتقديم المعمول على عامله في قوله ( ولذلك خلقهم ) ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلة وبهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين .
ثم أعقب ذلك بقوله ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) لأن قوله ( إلا من رحم ربك ) يؤذن بأن المستثنى منه قوم مختلفون اختلافا لا رحمة لهم فيه فهو اختلاف مضاد للرحمة وضد النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام .
وتمام كلمة الرب مجاز في الصدق والتحقق كما تقدم عند قوله تعإلى ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) في سورة الأنعام فالمختلفون هم نصيب جهنم .
والكلمة هنا بمعنى الكلام . فكلمة الله : تقديره وإرادته . أطلق عليها ( كلمة ) مجازا لأنها سبب في صدور كلمة " كن " وهي أمر التكوين . وتقدم تفصيله في قوله تعالى ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) في سورة الأنعام .
وجملة ( لأملأن جهنم ) تفسير للكلمة بمعنى الكلام . وذلك تعبير عن الإرادة المعبر عنها بالكلام النفسي .
ويجوز أن تكون الكلمة كلاما خاطب به الملائكة قبل خلق الناس فيكون ( لأملأن جهنم ) تفسيرا ل ( كلمة ) .
و ( من الجنة والناس ) تبعيض أي لأملأن جهنم من الفريقين . و ( أجمعين ) تأكيد لشمول تثنية كلا النوعين لا لشمول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته ( من ) .
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين [ 120 ] ) هذا تذييل وحوصلة لما تقدم من أنباء القرى وأنباء الرسل .
فجملة ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ) إلى آخرها عطف الإخبار على الإخبار والقصة على القصة ولك أن تجعل الواو اعتراضية أو استئنافية . وهذا تهيئة لاختتام السورة وفذلكة لما سيق فيها من القصص والمواعظ