وصيغة ( وما كان ربك ليهلك ) تدل على قوة انتفاء الفعل كما تقدم عند قوله تعالى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ) الآية في آل عمران وقوله ( قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) في آخر العقود فارجع إلى ذينك الموضعين .
والمراد ب ( القرى ) أهلها على طريقة المجاز المرسل كقوله ( واسأل القرية ) .
والباء في ( ب ظلم ) للملابسة وهي في محل الحال من ( ربك ) أي لما يهلك الناس إهلاكا متلبسا بظلم .
وجملة ( وأهلها مصلحون ) حال من ( القرى ) أي لا يقع إهلاك الله ظالما لقوم مصلحين .
والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله ( ينهون عن الفساد في الأرض وقوله وكانوا مجرمين ) فالله تعالى لا يهلك قوما ظالما لهم ولكن يهلك قوما ظالمين أنفسهم . قال تعالى ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) .
والمراد : الإهلاك العاجل الحال بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناء أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة .
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين [ 118 ] إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 119 ] ) A E لما كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من ينهون عن الفساد فاتبعوا الإجرام وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنه ليس ظلما من الله وأنهم لو كانوا مصلحين لما أهلكوا لما كان ذلك كله قد يثير توهم أن تعاصي الأمم عما أراد الله منهم خروج عن قبضة القدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهم بأن الله قادر أن يجعلهم أمة واحدة متفقة على الحق مستمرة عليه كما أمرهم أن يكونوا .
ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر والسلامة من حجب الضلالة وان الله تعالى لما خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) وتقدم الكلام عليها في سورة البقرة . لم يدخرهم إرشادا أو نصحا بواسطة الرسل ودعاة الخير وملقنيه من أتباع الرسل وهو أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض فمن الناس مهتد وكثير منهم فاسقون ولو شاء لخلق العقول البشرية على إلهام متحد لا تعدوه كما خلق إدراك الحيوانات العجم على نظام لا تتخطاه من أول النشأة إلى انقضاء العالم فنجد حال البعير والشاة في زمن آدم عليه السلام كحالهما في زماننا هذا وكذلك يكون إلى انقراض العالم فلا شك أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني لأن ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبدية الخالصة إن خيرا فخير وإن شرا فشر فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضيا ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضيا عقاب الجحيم فلا جرم أن الله خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأمور ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يعد الواحد بألف ( ليميز الله الخبيث من الطيب ) .
وهذا وجه مناسبة عطف جملة ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) على جملتي ( ولا يزالون مختلفين ) ( ولذلك خلقهم ) .
ومفعول فعل المشيئة محذوف لأن المراد منه ما يساوي مضمون جواب الشرط فحذف إيجازا . والتقدير : ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم كذلك .
والأمة : الطائفة من الناس الذين اتحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللغة والنسب والدين . وقد تقدمت عند قوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) في سورة البقرة . فتفسر الأمة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال : الأمة العربية والأمة الإسلامية