وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم وأبو جعفر وخلف بتشديد الميم من ( لما ) . فعند من قرأ ( إن ) مخففة وشدد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ( إن ) مخففة من الثقيلة وأما من شدد النون ( إن ) وشدد الميم من ( لما ) وهم ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله الفراء : إنها بمعنى " لمن ما " فحذفت إحدى الميمات الثلاث يريد أن ( لما ) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف ( لما ) في رسم المصحف " لأنه اتبع فيه صورة النطق بها " وإنما هي مركبة من لام الابتداء و " من " الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري : .
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم أي نكثر ضرب الكبش أي أمير جيش العدو على رأسه . وقول ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدة وكان مما يحرك لسانه حين ينزل عليه القرآن فقال الله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) الآية . فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإن كلا لمن ما ليوفينهم فلما قلبت نون " من " ميما لإدغامها في ميم ( ما ) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم " من " لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأن أصل الميم الثانية نون " من " فصار ( لما ) .
ولام ( ليوفينهم ) لام قسم .
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به .
A E والمعنى : وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد وإن توفية الله إياهم أعمالهم حققه الله ولم يسامح فيه . فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النحوي ومشى عليه البيضاوي . وقد أنهاها أبو شامة في شرح منظومة الشاطبي إلى ستة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه .
وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إن الله تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات أولها : كلمة ( إن ) وهي للتأكيد وثانيها ( كل ) وهي أيضا للتأكيد وثالثها اللام الداخلة على خبر ( إن ) ورابعها حرف ( ما ) إذا جعلناه موصولا على قول الفراء وخامسها القسم المضمر وسادسها اللام الداخلة على جواب القسم وسابعها النون المؤكدة في قوله ( ليوفينهم ) .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال أي إعطاء الجزاء وافيا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء .
وجملة ( إنه بما يعملون خبير ) استئناف وتعليل للتوفية لأن إحاطة العلم بأعمالهم مع إرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقا للعمل تمام المطابقة . وذلك محقق التوفية .
( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) ترتب عن التسلية التي تضمنها قوله ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ) وعن التثبيت المفاد بقوله ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ) الحض على الدوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم . وعبر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدوام على العمل بتعاليم الإسلام دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر من تغييره .
ولما كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السلام إنما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمر المؤمنين بتلك الاستقامة أيضا لأن الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم ولأن مخالفة الأمة عمدا إلى أحكام كتابها إن هو إلا ضرب من ضروب الاختلاف فيه لأنه اختلافها على أحكامه . وفي الحديث : " فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلا دون ذلك إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر . ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأن الإيمان أصل فلا تتعلق به الاستقامة . وقد أشار إلى صحة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عمرة الثقفي لما قال له : " يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك . قال : قل آمنت بالله ثم استقم " فجعل الاستقامة شيئا بعد الإيمان