وليس يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنما يقتضي أنها لو تعلقت المشيئة لوقع المستثنى وقد دلت الوعود الإلهية على أن الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها . وأيا ما كان فهم إذا أدخلوا الجنة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها . وهو معنى قوله ( عطاء غير مجذوذ ) .
والمجذوذ : المقطوع .
A E وقرأ الجمهور ( سعدوا ) بفتح السين وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بضم السين على أنه مبني للنائب وإن كان أصل فعله قاصرا لا مفعول له ؛ لكنه على معاملة القاصر معاملة المتعدي في معنى فعل به ما صيره صاحب ذلك الفعل كقولهم : جن فلان إذا فعل به ما صار به ذا جنون ف ( سعدوا ) بمعنى أسعدوا . وقيل : سعد متعد في لغة هذيل وتميم يقولون : سعده الله بمعنى أسعده . وخرج أيضا على أن أصله أسعدوا فحذف همز الزيادة كما قالوا مجنوب " بموحدة في آخره " ومنه قولهم : رجل مسعود .
( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص [ 109 ] ) تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقينا بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يؤذن بسوء حالهم في الآخرة ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشرك وفساده .
والخطاب في نحو ( فلا تك في مرية ) يقصد به أي سامع لا سامع معين سواء كان ممن يظن به أن يشك في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معينا .
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون ( لا تك ) مقصودا به مجرد تحقيق الخبر فإنه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة : لا شك ولا محالة ولا أعرفنك ونحوها .
ويجوز أن يكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلب في الشرك أي لا تكن شاكا في أنك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيته الرسل من أممهم فإن هؤلاء ما يعبدون إلا عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة .
و ( في ) للظرفية المجازية .
والمرية بكسر الميم : الشك . وقد جاء فعلها على وزن فاعل أو تفاعل وافتعل . ولم يجيء على وزن مجرد لأن أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعارا من مريت الشاة إذا استخرجت لبنها . ومنه قولهم : لا يجارى ولا يمارى . وفي القرآن ( أفتمارونه على ما يرى ) . وقد تقدم الامتراء عند قوله ( ثم أنتم تمترون ) في أول الأنعام .
و ( ما ) في قوله ( ما يعبد ) مصدرية أي لا تك في شك من عبادة هؤلاء والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش .
وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته عناهم باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعا وهو مما ألهمت إليه ونبهت عليه عند قوله تعالى ( وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) في سورة النساء .
ومعنى الشك في عبادتهم ليس إلا الشك في شأنها لأن عبادتهم معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها وإنما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشك من أنهم هل يعذبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة .
وجملة ( ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ) مستأنفة تعليلا لانتفاء الشك في عاقبة أمرهم في الدنيا .
ووجه كونه علة أنه لما كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقابا على دينهم فأنتم توقنون بأن جزاءهم سيكون مماثلا لجزاء أسلافهم لأن حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة .
والاستثناء بقوله ( إلا كما يعبد ) استثناء من عموم المصادر . وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف . التقدير : إلا عبادة كما يعبد آباؤهم .
والآباء : أطلق على الأسلاف وهم عاد وثمود . وذلك أن العرب العدنانيين كانت أمهم جرهمية وهي امرأة إسماعيل وجرهم من إخوة ثمود وثمود إخوة لعاد ولأن قريشا كانت أمهم خزاعية وهي زوج قصي . وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى وهو جد خزاعة