وإعادة النداء في جملة ( ويا قوم أوفوا المكيال ) لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان . وهذا الأمر تأكيد للنهي عن نقصهما . والشيء يؤكد بنفي ضده كقوله تعالى ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) . لزيادة الترغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده .
A E والباء في قوله ( بالقسط ) للملابسة . وهو متعلق ب ( أوفوا ) فيفيد إن الإيفاء يلابسه القسط أي العدل تعليلا للأمر به لأن العدل معروف حسن وتنبيها على أن ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر .
والقسط تقدم في قوله تعالى ( قائما بالقسط ) في آل عمران .
والبخس : النقص . وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا . وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص . لأن التطفيف من بخس الناس في أشيائهم وتعدية ( تبخسوا ) إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا .
والعثي بالياء من باب سعى ورمى ورضي وبالواو كدعا هو : الفساد . ولذلك فقوله ( مفسدين ) حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد .
والمراد : النهي عن الفساد كله كما يدل عليه قوله ( في الأرض ) المقصود منه تعميم أماكن الفساد .
والفساد تقدم في قوله تعلى ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) في أول سورة البقرة .
وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العام وبه حصلت خمسة مؤكدات : بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص ثم بالتعميم بعد التخصيص ثم بزيادة التعميم ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان ثم بتأكيده بالمؤكد اللفظي .
وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوع من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف . ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس . ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كله . وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال .
وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما أدخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل .
ولفظ ( بقية ) كلمة جامعة لمعان في كلام العرب منها : الدوام ومؤذنة بضده وهو الزوال فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل وبقاؤه دنيوي وأخروي .
فأما كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمة في أمة من توثب بعضها على بعض ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صل الله عليه وسلم : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرضة للابتزاز والزوال . وأيضا فلأن نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال ابن عطاء الله : " من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها " .
وأما كونه أخرويا فلأن نهي الله عنها مقارنا للوعد بالجزاء على تركها وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ) .
على أن لفظ ( البقية ) يتحمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب وهو معنى الخير والبركة لأنه لا يبقى إلا ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ولذلك أطلقت ( البقية ) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى ( فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ) وقوله ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي : .
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل أي من أفاضلهم .
وفي كلمة ( البقية ) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم والعرب يقولون عند طلب الكف عن القتال : ابقوا علينا ويقولون " البقية البقية " بالنصب على الإغراء قال الأعشى :