وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها ( فهل أنتم مسلمون ) فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بينة من ربهم مؤيدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قبل بينتهم .
وقريب من معنى الآية قوله تعالى ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ) فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مما يخالف ما ذكرناه كلا أو بعضا فبصرك فيها حديد وبيدك لفتح مغالقها مقاليد .
وجملة ( ومن يكفر به من الأحزاب ) عطف على جملة ( أفمن كان على بينة من ربه ) لأنه لما حرض أهل مكة على الإسلام بقوله ( فهل أنتم مسلمون ) وأراهم القدوة بقوله ( أولئك يؤمنون به ) عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال ( من يكفر به من الأحزاب ) وأعرض عما تبين له من بينة ربه وشواهد رسله فالنار موعده .
والأحزاب : هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمر يجتمعون عليه فالمشركون حزب واليهود حزب والنصارى حزب قال تعالى ( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ) .
والباء في ( يكفر به ) كالباء في ( يؤمنون به ) .
والموعد : ظرف للوعد من مكان أو زمان . وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعين لعمل أن يعين به بوعد سابق .
( فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 17 ] ) تفريع على جملة ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) والخطاب للنبي A والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه . ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيطلب منه تركه ويكون النهي طلب تحصيل الحاصل تعين أن يكون النهي غير مراد به الكف والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملا في لازم ذلك بقرينة المقام ومما يزيد ذلك وضوحا قوله تعالى في سورة آلم السجدة ( ولقد آتينا موسى بالكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ) فإنه لو كان المقصود تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الامتراء في اللوح لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدم إليهم احتجاج سبق الوحي لموسى عليه السلام .
و ( في ) للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظرا لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن .
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير ( افتراه ) .
وجملة ( إنه الحق من ربك ) مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة ( فلا تك في مرية منه ) من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه . وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام .
والمرية : الشك . وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام . واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأولى وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذما وشناعة .
و ( من ) ابتدائية أي في شك ناشئ عن القرآن وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكا في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته وهذا مثل الضمير في قوله ( يؤمنون به ) من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها .
وتعريف ( الحق ) لإفادة قصر جنس الحق على القرآن . وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك : حاتم الجواد .
A E والاستدراك بقوله ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) ناشئ على حكم الحصر فإن الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين .
وحذف متعلق ( يؤمنون ) لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا