والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله ابن سلام ممن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البينة فأصحابها مؤمنون بها .
والمراد بالبينة حجة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل . فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذبوا رسولا صادقا . وكون اليهود على بينة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بينة . فالمراد على بينة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله ( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) ويعنيها اللاحق من قوله ( أولئك يؤمنون به ) أي بالقرآن .
و ( من ) في قوله ( من ربه ) ابتدائية ابتداء مجازيا . ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقوله الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) . وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البينة المذكورة هنا من الإنجيل ويقوي أن المراد ب ( من كان على بينة من ربه ) النصارى .
وفعل ( يتلوه ) مضارع التلو وهو الاتباع وليس من التلاوة أي يتبعه . والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له . وضمير الغائب المنصوب في قوله ( يتلوه ) عائد إلى ( من كان على بينة من ربه ) .
والمراد ب ( شاهد منه ) شاهد من ربه أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان يعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله .
و ( من ) ابتدائية . وضمير ( منه ) عائد إلى ( ربه ) . ويجوز أن يعود إلى ( شاهد ) . أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان يمثله .
و ( من قبله ) حال من ( كتاب موسى ) . و ( كتاب موسى ) عطف على ( شاهد منه ) والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتوراة لأنها أصله وفيها بيانه ولذلك لما عطف ( كتاب موسى ) على ( شاهد ) الذي هو معمول ( يتلوه ) قيد كتاب موسى بأنه من قبله أي ويتلوه شاهد منه . ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبل الشاهد أي سابقا عليه في النزول . وإذا كان المراد ب ( من كان على بينة من ربه ) النصارى خاصة كان لذكر ( كتاب موسى ) إيماء إلى أن كتاب موسى عليه السلام شاهد على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بينة من ربهم كاملة من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام .
و ( إماما ورحمة ) حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للناس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله .
والإشارة ب ( أولئك ) إلى ( من كان على بينة من ربه ) أي أولئك الذين كانوا على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين وذلك في معنى قوله تعالى ( فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) .
وإقحام ( أولئك ) هنا يشبه إقحام ضمير الفصل وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الإنجيل والتوراة .
وجملة ( أولئك يؤمنون به ) خبر ( من كان على بينة من ربه ) .
A E وضمير ( به ) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله ( أم يقولون افتراه ) .
وبه ينتظم الكلام مع قوله ( أم يقولون افتراه ) إلى قوله ( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله .
والباء للتعدية لا للسببية فتعدية فعل ( يؤمنون ) إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل ( حرمت عليكم أمهاتكم ) أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله