وجملة ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ) مستأنفة ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة . وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله ( أولئك على هدى من ربهم ) في سورة البقرة .
و ( إلا النار ) استثناء مفرغ من ( ليس لهم ) أي ليس لهم شيء مما يعطاه الناس في الآخرة إلا النار وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا .
والحبط : البطلان أي الانعدام .
والمراد ب ( ما صنعوا ) ما عملوا ومن الإحسان في الدنيا كإطعام العفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضا ولذلك عبر هنا ب ( صنعوا ) لأن الإحسان يسمى صنيعة .
وضمير ( فيها ) يجوز أن يعود إلى ( الدنيا ) المتحدث عنها فيتعلق المجرور بفعل ( صنعوا ) . ويجوز أن يعود إلى ( الآخرة ) فيتعلق المجرور بفعل ( بطل ) أي انعدم أثره . ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة " أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " .
والباطل : الشيء الذي يذهب ضياعا وخسرانا .
( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة ومن جهة إجمال المراد من الموصول وموقع الاستفهام وموقع فاء التفريع . وقد حكى ابن عطية وجوها كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها . والاختلاف في ما صدق ( من كان على بينة من ربه ) . وفي المراد من ( بينة من ربه ) وفي المعني ب ( يتلوه ) . وفي المراد من ( شاهد ) . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله ( يتلوه ) . وفي معنى ( من ) من قوله ( منه ) وفي معاد الضمير المجرور ب ( من ) . وفي موقع قوله ( من قبله ) من قوله ( كتاب موسى ) . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله ( أولئك يؤمنون به ) . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله ( يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب ) الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية .
والذي تخلص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجها وأقرب بالمعنى المقصود شبها : أن الفاء للتفريع على جملة ( أم يقولون افتراه إلى قوله فهل أنتم مسلمون ) وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان وهذا التفريع تفريع الضد على ضده في إثبات ضد حكمه له أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وصف فثم قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البينات والشواهد فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله ( فهل أنتم مسلمون ) أي كما أسلم من كانوا على بينة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب .
والهمزة للاستفهام التقريري أي إن كفر به هؤلاء أفيؤمن به من كان على يبنة من ربه وهذا على نحو نظم قوله تعالى ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ) أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب .
A E و ( من كان على بينة ) لا يراد بها شخص معين . فكلمة ( من ) هنا تكون كالمعرف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة أعني أنه على بينة من ربه . وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة . وإفراد ضمائر ( كان على بينة من ربه ) مراعاة للفظ ( من ) الموصولة وذلك أحد استعمالين . والجمع في قوله ( أولئك يؤمنون ) مراعاة لمعنى ( من ) الموصولة وذلك استعمال آخر . والتقدير : أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به . ونظير هذه الآية قوله تعالى ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) في سورة القتال