وتحداهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحداهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله كما في سورة البقرة وسورة يونس . فقال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان التحدي أول الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن . وهو ما وقع في سورة هود ثم نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس . فتخطى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس وهو الذي يعتمد عليه .
وقال المبرد : تحداهم أولا بسورة ثم تحداهم هنا بعشر سور لأنهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلما وسع عليهم في صفتها أكثر عليهم عددها . وما وقع من التحدي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني وليس بالقوي .
ومعنى ( مفتريات ) أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم . وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي فالمماثلة في قوله ( مثله ) هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه . قال علماؤنا : وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علو معانيه وتصديق بعضه بعضا . وهو كذلك .
والدعاء : النداء لعمل . وهو مستعمل في الطلب مجازا ولو بدون نداء .
وحذف المتعلق لدلالة المقام أي وادعوا لذلك . والأمر فيه للإباحة أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسمون فيه المقدرة على ذلك ومن ترجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونكم كقوله ( وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
و ( من دون الله ) وصف ل ( من استطعتم ) ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله فلما عمم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكل من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله .
ومعنى ( إن كنتم صادقين ) أي في قولكم ( افتراه ) وجواب الشرط هو قوله ( فأتوا بعشر سور ) . ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم .
( فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [ 14 ] ) تفريع على ( وادعوا من استطعتم ) أي فإن لم يستجب لكم من تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلا حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعا في يأس الداعين من الإتيان بعشر سور .
والاستجابة : الإجابة والسين والتاء فيه للتأكيد . وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه وهي مجاز مرسل لأن المعاونة تنشأ عن النداء إلى الإعانة غالبا فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسميت استجابة .
والعلم : الاعتقاد اليقين أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلا بعلم الله أي ملابسا لعلم الله . أي لأثر العلم وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه . وقد أفادت ( أنما ) الحصر أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله . ( أن لا إله إلا هو ) عطف على ( أنما أنزل ) لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم . ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم .
A E والفاء في ( فهل أنتم مسلمون ) للتفريع على ( فاعلموا ) . والاستفهام مستعمل في الحث على الفعل وعدم تأخيره كقوله ( فهل أنتم منتهون ) أي عن شرب الخمر وفعل الميسر . والمعنى : فهل تسلمون بعد تحققكم أن هذا القرآن من عند الله .
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته . ولم يقل فهل تسلمون لأن حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدل عليه الجملة الاسمي .
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون [ 15 ] أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 16 ] )