وكلمة ( ذات ) مؤنث " ذو " يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى ( إنه عليم بذات الصدور ) وقوله ( وأصلحوا ذات بينكم ) في سورة الأنفال .
والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواس الباطنية بالصدر .
واختيار مثال للمبالغة وهو ( عليم ) لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود .
وذات الصدور : الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها . فأضيفت إليها .
( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 6 ] ) عطف على جملة : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ) . والتقدير : وما من دابة إلا يعلم مستقرها ومستودعها وإنما نظم الكلام على هذا الأسلوب تفننا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب ( من ) ولإدماج تعميم رزق الله كل دابة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة فلأجل ذلك آخر الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالا على أنه عليم بأحوالها فإن كونه رازقا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلا على علمه بما تحتاجه .
والدابة في اللغة اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان .
وزيادة ( في الأرض ) تأكيد لمعنى ( دابة ) في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته .
والرزق : الطعام وتقدم في قوله تعالى : ( وجد عندها رزقا ) .
والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول علي بذكر رزقها الذي هو من أحوالها .
وتقديم ( على الله ) قبل متعلقة وهو ( رزقها ) لإفادة القصر أي على الله لا على غيره ولإفادة تركيب ( على الله رزقها ) معنى أن الله تكفل برزقها ولم يهمله لأن ( على ) تدل على اللزوم والمحقوقية ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا فما أفاد معنى اللزوم فإنما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى : ( وعدا علينا ) وقوله : ( حقا علينا ) .
والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها أي رزقها على الله لا على غيره فالمستثنى هو الكون على الله والمستثنى منه مطلق الكون مما يتخيل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومقدره .
وجملة ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى أي والله يعلم مستقر كل دابة ومستودعها . فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيز الحصر .
والمستقر : محل استقرارها . والمستودع : محل الإيداع والإيداع : الوضع والدخر . والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) في سورة الأنعام .
وتنوين ( كل ) تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار أي كل رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين أي كتابة فالكتاب هنا مصدر كقوله ( كتاب الله عليكم ) . وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانا ولا تخلفا . كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل . قال الحارث بن حلزة : A E .
حذر الجور والتطاخي وهل ينق ... ض ما في المهارق الأهواء والمبين : اسم فاعل أبان بمعنى أظهر وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير . وليس المراد أنه موضح لمن يطالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد .
( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) عطف على جملة ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) . والمناسبة أن خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته وقد تقدم القول في نظيرها في قوله ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) في سورة الأعراف