ففي البخاري عن ابن مسعود : اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) .
وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم والأقيسة الفاسدة وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم وقياس الغائب على المشاهد . وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع .
وعلى الاحتمال الثاني فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبي A في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به . وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذ بمصانعين للنبي A . وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية . وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين . وفي أسباب النزول للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان رجلا حلو المنطق وكان يظهر المودة للنبي A وهو منطو على عداوته أي عداوة الدين فضرب الله ثني الصدور مثلا لإضماره بغض النبي A . فهو تمثيل وليس بحقيقة . وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله ( الذين قال لهم الناس ) قيل فإنه هو الأخنس بن شريق .
ووقع في صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال : كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية . وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر . فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها . واعلم أن شأن دعوة الحق أن لا تذهب باطلا حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها فإنها تلفت عقولهم إلى فرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها وكل ذلك يثير حقيقتها ويشيع دراستها . وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها . وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرت حين تقاضاه أجر سيف صنعه فقال له : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد . فقال خباب : لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك . فقال العاصي له : إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه . فنزل فيهة قوله تعالى ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) . وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال .
والاستخفاء : الاختفاء فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر .
A E وجملة ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) الخ يجوز أن تكون إتماما لجملة ( ألا يثنون صدورهم ) متصلة بها فيكون حرف ( ألا ) الثاني تأكيدا لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر فيتعلق ظرف ( حين ) بفعل ( يثنون صدورهم ) ويتنازعه مع فعل ( يعلم ما يسرون ) وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب .
والاستغشاء : التغشي بما يغشي أي يستر فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله ( واستغشوا ثيابهم ) ومثل استجاب .
وزيادة ( وما يعلنون ) تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر .
وجملة ( إنه عليم بذات الصدور ) نتيجة وتعليل للجملة قبله أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأولى .
فذات الصدور صفة لمحذوف يعلم من السياق من قوله ( عليم ) أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور