ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعار بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسبا لما وقع بعده وناشئا منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسول A في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع ونذير لمن أعرض وعصى وذلك أيضا جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية وهذا عين الإحكام .
و ( من ) في قوله ( إنني لكم منه ) ابتدائية أي أني نذير وبشير لكم جائيا من عند الله .
والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني .
( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) عطف على جملة ( ألا تعبدوا إلا الله ) وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى ودلائل على ذلك وأمثال ونذر فالمقصود : تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها .
والاستغفار : طلب المغفرة أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى وذلك الندم .
والتوبة : الإقلاع عن عمل ذنب والعزم على أن لا يعود إليه .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة فأن تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة .
والمتاع : اسم مصدر التمتيع لما يتمتع به أي ينتفع . ويطلق على منافع الدنيا . وقد تقدم عند قوله تعالى ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) في سورة الأعراف .
والحسن : تقييد لنوع المتاع بأنه الحسن في نوعه أي خالصا من المكدرات طويلا بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله ( إلى أجل مسمى ) . والمراد بالمتاع : الإبقاء أي الحياة والمعنى أنه لا يستأصلهم . ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة .
و ( إلى أجل ) متعلق ب ( يمتعكم ) وهو غاية للتمتيع وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية فعلم أنه متاع الدنيا . والمقصود بالأجل : أجل كل واحد وهو نهاية حياته وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة .
A E وجملة ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) عطف على جملة ( يمتعكم ) . والإيتاء : الإعطاء وذلك يدل على أنه من المتاع الحسن فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة . والفضل : إعطاء الخير . سمي فضلا لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير .
والفضل الأول : العمل الصالح بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس . والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا . والمعنى : ويؤت الله فضله كل ذي فضل في عمله .
ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المجزي عليه لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير . وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله وهو سر بين العبد وربه . ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيان قوله تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) .
( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير [ 3 ] ) عطف على ( وأن استغفروا ربكم ) فهو من تمام ما جاء تفسيرا ل ( أحكمت آياته ثم فصلت ) وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس .
وتولوا : أصله تتولوا حذفت إحدى التائين تخفيفا .
وتأكيد حملة الجزاء ب ( إن ) وبكون المسند إليه فيها اسما مخبرا عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب