وإذ كان الكلام تغليطا لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل وتعريضا بالتحذير مما وقعوا فيه . كان الكلام إثباتا صريحا ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري " يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا " أي كل ضر لا ضرا معينا وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله ( إلا قوم يونس ) فهذا وجه تفسير الآية . وجرى عليه كلام العكبري في إعراب القرآن والكواشي في التخليص وجمهور المفسرين جعلوا جملة ( فلولا كانت قرية آمنت ) في قوة المنفية وجعلوا الاستثناء منقطعا منصوبا ولا داعي إلى ذلك .
وجملة ( لما آمنوا ) مستأنفة لتفصيل مجمل معنى الاستثناء . وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب . وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعدة فيكاد يحل بهم عذاب استئصال لولا أنهم عجلوا بالإيمان يوم الفتح . فقال لهم النبي A : أنتم الطلقاء .
وقوم يونس هم أهل قرية نينوى من بلاد العراق . وهم خليط من الآشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر . وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرن الثامن قبل المسيح . وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام .
ولما كذبه أهل نينوى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوما وخرج من المدينة غاضبا عليهم فلما خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذبهم . والمذكور أنهم رأوا غيما أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوما من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب . وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء .
والكشف : إزالة ما هو ساتر لشيء وهو هنا مجاز في الرفع . والمراد : تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلا لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع .
والخزي : الإهانة والذل . وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله . وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجى قوم يونس .
و ( في الحياة الدنيا ) صفة ل ( عذاب الخزي ) للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد ادخر لها عذاب الآخرة .
A E والتمتيع : الإمهال .
وإبهام ( حين ) لأنه مختلف باختلاف آجال آحادهم والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا .
ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين : أحدهما : أن الله علم أن تكذيبهم يونس عليه السلام في ابتداء دعوته لم يكن ناشئا عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله ولكنه كان شكا في صدق يونس عليه السلام . ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى عليه السلام وإنما حرفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله فإن في نينوى كثيرا من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الآشوريين كما علمت آنفا فلما أوعدهم يونس عليه السلام بالعذاب بعد أربعين يوما ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوما اهتدوا وآمنوا إيمانا خالصا .
وثانيهما : أن يونس عليه السلام لما صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئا من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من توهم أن ما جرى ليونس عليه السلام من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها