والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلا لغيرهم وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم . وقد علمت آنفا أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس .
وأعيد النداء ثالث مرة لزيادة تأكيد التوجه والتضرع .
وجملة ( اطمس على أموالهم ) هي المقصود من هذا الكلام والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف .
والطمس : المحو والإزالة . وقد تقدم في قوله ( من قبل أن نطمس وجوها ) في سورة النساء . وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء ويعدى بحرف ( على ) كما هنا . وقوله تعالى ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) في سورة يس .
ولعل تعديته ب ( على ) لإرادة تمكن الفعل من المفعول أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها .
وأما قوله ( واشدد ) فأحسب أنه مشتق من الشد وهو العسر . ومنه الشدة للمصيبة والتحرج ولو أريد غير ذلك لقيل : واطبع أو واختم أو نحوهما فيكون شد بمعنى أدخل الشد أو استعمله مثل جد في كلامه أي استعمل الجد .
وحرف ( على ) مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة .
والمعنى : أدخل الشدة في قلوبهم .
والقلوب : النفوس والعقول .
والمعنى : أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر . وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك فعجلوا بالنوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ) .
A E ويجوز أن يكون ( اشدد ) من الشد وهو الهجوم . يقال : شد عليه إذا هجم وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه تمثيلا لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يشد على عدوه ليقتله وهو معنى قوله تعالى ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) أي طوعهم لحكمك وسخرهم .
وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء أي افعل بهم ذلك ليؤمنوا . والفعل منصوب بأن مضمرة إضمارا واجبا بعد فاء السببية .
فقوله ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب ) في قوة أن يقال : فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قبل ذلك .
وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان إلى إيراده بصيغة نفي مغيا بغاية هي رؤية العذاب سلوكا لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية وكل ذلك علاج بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تجد فيهم وسائل الحجة فقال ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) أي أن شأنهم ذلك وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيان علة الدعاء عليهم بذلك . وأصل الكلام : فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم .
والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى فتلك هي مصب الجواب . وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال ولا يعسر معه المنال ويجوز أن يكون قوله ( فلا يؤمنوا ) الخ عطفا على قوله ( ليضلوا عن سبيلك ) وجملة الدعاء بينهما معترضة .
والمعنى : ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم . وهذا تأويل المبرد والزجاج .
والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس .
والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد .
( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ) جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أن لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة .
وافتتاح الجملة ب ( قد ) والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل فشبه بالمضي