( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة . وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومن معه من أرض مصر . فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه وأنفذ برسالته مراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد .
ومهد موسى لدعائه تمهيدا يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلول العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان . .
ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغريا لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحا لهم وتطلبا لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال .
وافتتح الدعاء بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء . ونودي الله بوصف الربوبية تذللا لإظهار العبودية .
وقوله ( إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا ) توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله ( ليضلوا عن سبيلك ) . ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه .
فاقتران الخبر بحرف ( إن ) في قوله ( إنك آتيت فرعون ) الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار .
A E وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله ( ليضلوا عن سبيلك ) . والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة . ونقل ذلك عن نحاة البصرة : الخليل وسيبويه والأخفش وأصحابهما على نحو اللام في قوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علة فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره فالمعنى : إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فضلوا بذلك وأضلوا .
وللمفسرين وجوه خمسة أخرى : أحدها : أن يكون للتعليل وأن المعنى : إنك فعلت ذلك استدراجا لهم ونسب إلى الفراء وفسر به الطبري .
الثاني : أن الكلام على حذف حرف والتقدير : لئلا يضلوا عن سبيلك أي فضلوا . حكاه الفخر .
الثالث : أن اللام لام الدعاء . روي هذا عن الحسن . واقتصر عليه في الكشاف . وقاله ابن الأنباري . وهو أبعد الوجوه وأثقلها .
الرابع : أن يكون على حذف همزة الاستفهام . والتقدير : ليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالا تقريرا للشنعة عليهم قاله ابن عطية . ويكون الاستفهام مستعملا في التعجب قاله الفخر .
الخامس : تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك قاله الفخر . وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها .
والزينة : ما يتزين به الناس وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا كالحلي والجواهر والمباني الضخمة . قال تعالى ( زين للناس حب الشهوات ) وقال ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) وقال ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) .
والأموال : ما به قوام المعاش فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ وتعظم شأنهم في أنظار قومهم والأموال يسخرون بها الرعية لطاعتهم وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاهية العيش ما سار ذكره في الآفاق . وظهرت مثل منه في أهرامهم ونواويسهم .
وأعيد النداء بين الجملة المعللة والجملة المعللة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قصد الاعتراض .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ( ليضلوا ) بفتح الياء . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس