وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط والإيمان تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي ولا يعتبر شرعا إلا مع الإسلام والإسلام : النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعا إلا مع الإيمان فالإيمان انفعال قلبي نفساني والإسلام عمل جسماني وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة وإذ لا يكون القول حقا إلا إذا وافق ما في النفس قال تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . وقد ورد ذلك صريحا في حديث سؤال جبريل في الصحيحين .
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين . ومن ثم كان قوله ( فعليه توكلوا ) جوابا للشرطين كليهما . أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول . هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام .
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيهم مسرعا بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة وإلى عقد العزم على التوكل على الله فلذلك بادروا بجوابه بكلمة ( على الله توكلنا ) مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى .
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافا للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير معطوفة فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة .
ثم ذيلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم من أن يقيهم ضر فرعون ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامة الكفرة ويظنون أن دينهم الحق .
والفتنة : تقدم تفسيرها آنفا . وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر والكفر فتنة .
A E والفتنة مصدر . فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة فتعدية فعل ( تجعلنا ) إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين .
ووصفوا الكفار ب ( الظالمين ) لأن الشرك ظلم ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم : ظلم أنفسهم وظلم الخلائق ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين أي من بطشهم وإضرارهم .
وزيادة ( برحمتك ) للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم قال تعالى ( قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) .
وذكر لفظ القوم في قوله ( للقوم الظالمين ) وقوله ( من القوم الكافرين ) للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة وفي هذه السورة غير مرة .
( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين ) يجوز أن يكون عطفا على جملة ( وقال موسى يا قوم ) ويجوز أن يكون عطف قصة على قصة أي على مجموع الكلام السابق لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار موسى وقومه .
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومؤازره .
والتبوؤ : اتخاذ مكان يسكنه وهو تفعل من البوء أي الرجوع كأن صاحب المسكن يكلف نفسه الرجوع إلى محل سكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك وتقدم عند قوله تعالى ( تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) في آل عمران . فمعنى ( تبوءا لقومكما ) اجعلا قومكما متبوئين بيوتا .
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي إذ كانا سبب تبوؤ قومهما للبيوت . والقرينة قوله ( لقومكما ) إذ جعل التبوؤ لأجل القوم