وقوله ( أن أكون من المسلمين ) أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام أي توحيد الله دون عبادة شريك لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره . كما في قوله تعالى ( فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) .
A E وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاما في مختلف العصور وسمي الله به سنن الرسل فحكاه عن نوح عليه السلام هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) وعن إسماعيل ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم ( ونحن له مسلمون ) وعن يوسف ( توفني مسلما ) وعن موسى قال ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) وعن سليمان ( أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) وعن عيسى والحواريين ( قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) . وقد تقدم بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) في سورة البقرة .
وقوله ( أن أكون من المسلمين ) أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من : أن أكون مسلما كما تقدم عند قوله تعالى ( واركعوا مع الراكعين ) في سورة البقرة وعند قوله ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) في سورة براءة .
( فكذبوه فنجينه ومن معه في الفلك وجعلهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عقبة المنذرين ) الفاء للتفريع الذكري أي تفريع ذكر هذه الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة كقوله تعالى ( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ) وإلا فان تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم ( إن كان كبر عليكم مقامي ) الخ لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته .
ولك أن تجعل معنى فعل ( كذبوه ) الاستمرار على تكذيبه مثل فعل ( آمنوا ) في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ) فتكون الفاء لتفريغ حصول ما بعدها على حصول ما قبلها .
وأما الفاء التي في جملة ( فنجيناه ) فهي للترتيب والتعقيب لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومن اتبعه . وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمنا بقوله ( إذ قال لقومه يا قوم إن كبر عليكم مقامي ) الآية فكان كرد العجز على الصدر . ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلة نوح الأخيرة قومه المنتهية بقوله ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) فكان تفننا بديعا في النظم مع إيجاز بهيج .
وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة .
والفلك : السفينة . وتقدم عند قوله تعالى ( والفلك التي تجري في البحر ) في سورة البقرة .
والخلائف : جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره . وتقدم عند قوله تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) في سورة البقرة . وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة .
وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله ( وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ) للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق وأنه التكذيب بآيات الله إنذارا للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله ( فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار .
والنظر : هنا نظر عين نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد .
والخطاب ب ( انظر ) يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطابا لمحمد A فخص بالخطاب تعظيما لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به .
( ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين )