وعطف جملة ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) ب ( ثم ) الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم . وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأن شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباسا عليهم أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .
A E والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي وهو انبهام الحال وعدم تبين السداد فيه ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل : .
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد وإظهار لفظ الأمر في قوله ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) مع أنه عين الذي في قوله ( فأجمعوا أمركم ) لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .
و ( ثم ) في قوله ( ثم اقضوا إلي ) للتراخي في الرتبة فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاه أقوى من تدبير ذلك ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه فعطف ب ( ثم ) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .
و ( اقضوا ) أمر من القضاء فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي .
ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم وهو قريب من الوجه الأول أي أنفذوا حكمكم .
وعدي ب ( إلى ) دون " على " لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصا على معنى التنفيذ بالفعل لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ويكون بالفعل فهو قضاء بتنفيذ ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .
وقوله ( ولا تنظرون ) تأكيد لمدلول التضمين المشار إليه بحرف ( إلى ) . والإنظار التأخير وحذفت ياء المتكلم من ( تنظرون ) للتخفيف وهو حذف كثير في فصيح الكلام وبقاء نون الوقاية مشعر بها .
( فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت من المسلمين ) الفاء لتفريغ الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مراد به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضا . وإنما قصد إقرارهم به قطعا لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم . والمعنى : فأن توليتم فقد علمتم أني ما سألتكم أجرا فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شحا بأموالكم أو اتهاما بتكذيبي وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه . وبذلك برأ نفسه من أن يكون سببا لتوليهم وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوع جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط . وذلك مثل قوله تعالى ( إن كنت قلته فقد علمته ) في آخر سورة العقود . وقد تقدم عند قوله تعالى ( وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ) في سورة الأعراف .
وجملة ( إن أجري إلا على الله ) تعميم لنفي تطلبه أجرا على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة ( فما سألتكم من أجر ) مع زيادة التعميم . وطريق جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه .
وأتى بحرف ( على ) المفيد لكونه حقا له عند الله بناء على وعد الله إياه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده فصار بالوعد حقا على الله التزم الله به .
والأجر : العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض .
وجملة ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) معطوفة على جملة الجواب والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي . وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال .
وبني فعل ( أمرت ) للمجهول في اللفظ للعلم به إذ من المعلوم من سياق الكلام أن الذي أمره هو الله تعالى