والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى ( ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما ) أي خير حالة وشأنا . وهو استعمال من قبيل الكناية لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته وفيهما مظاهر أحواله .
A E وخص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى ( كبر عليكم مقامي وتذكيري ) سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعا مر المذاق من نفوسهم شديد الإيلام لقلوبهم لما في منازعة الحق نفوسهم من صولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم وتشمئز منها نفوسهم وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم .
وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .
والباء في ( بآيات الله ) لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني والمفعول الأول محذوف والتقدير : تذكيري إياكم .
و ( آيات الله ) مفعول ثان للتذكير . يقال : ذكرته أمرا نسيه فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى ( وذكرهم بأيام الله ) وقول مسور بن زيادة الحارثي : .
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتلي ولذلك قالوا في قوله تعالى ( وامسحوا برؤوسكم ) أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .
وآيات الله : دلائل فضله عليهم ودلائل وحدانيته لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل فكان يذكرهم بها وذلك يبرمهم ويحرجهم .
وجملة ( فعلى الله توكلت ) جواب شرط ( إن كان كبر عليكم مقامي ) باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم وهم في كثرة ومنعة وهو في قلة وضعف لا يصده عن استمرار الدعوة وأنه وإن كان بينهم وحيدا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله .
ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله ( فعلى الله توكلت ) أي لا على غيره .
والتوكل : التعويل على من يدبره أمره . وقد مر عند قوله ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) في سورة آل عمران .
والفاء في ( فأجمعوا أمركم ) للتفريع على جملة ( على الله توكلت ) فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبر عليكم مقامي الخ فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت كما قال هود لقومه ( فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ) .
وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فعله وفعل ضده . وهو مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جمع ما كان متفرقا . فالهمزة فيه للجعل أي جعل أمره جمعا بعد أن كان متفرقا .
ويقولون : جاؤوا وأمرهم جميع أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .
والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .
و ( شركاءكم ) منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى ( مع ) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .
وقرأ يعقوب ( وشركاؤكم ) مرفوعا عطفا على ضمير ( فأجمعوا ) وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجمع شركاؤكم أمرهم .
وصيغة الأمر في قوله ( فأجمعوا ) مستعملة في التسوية أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشا من القوم وذلك تهكم بهم كما في قوله تعالى ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون )