انتقال من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ؛ فإن نوحا عليه السلام مع قومه مثل لحال محمد A مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلا ثم يؤخذون أخذة رابية كما متع قوم نوح زمنا طويلا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا فذكر قصة نوح مع قومه عظة للمشركين وملقيا بالوجل والذعر في قلوبهم وفي ذلك تأنيس للرسول A وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء والصالحين من أقوامهم وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قوله في نهاية هذه القصص ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) الآيات . وقوله ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ) الآيات .
وبهذا يظهر حسن موقع ( إذ ) من قوله ( إذ قال لقومه يا قوم ) إلى آخره فإن تقييد النبأ بزمن قوله ( لقومه ) إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءهم زمنا طويلا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم والنبي A قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .
و ( إذ ) اسم للزمن الماضي وهو هنا بدل اشتمال من ( نبأ ) أو من ( نوح ) . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ) .
وضمير ( عليهم ) عائد إلى ( الذين يفترون على الله الكذب ) .
والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .
والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) في سورة الأنعام .
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران .
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله ( إذ قال لقومه ) إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ) .
وظرف ( إذ ) وما أضيف إليه في موضع الحال من ( نبأ نوح ) .
وافتتاح خطاب نوح قومه ب ( يا قوم ) إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازا في طلب الإقبال المجازي وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخير لهم لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرا . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .
ومعنى ( إن كان كبر عليكم مقامي ) شق عليكم وأحرجكم .
والكبر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ويستعار الكبر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه فقد يكون مدحا كقوله تعالى ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ويكون ذما كقوله ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) ويستعار الكبر للمشقة والحرج كقوله تعالى ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) وقوله ( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) وكذلك هنا