وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكارا ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع ( لو ) الوصلية هنا بعدما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها ( لو ) الوصلية بل المعنى بالعكس .
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقوى الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله ( أفأنت تسمع ) وقوله ( أفأنت تهدي ) دون أن يقال : أتسمع الصم وأتهدي العمي فكان هذا التعجيب مؤكدا مقوى .
و ( لو ) في قوله ( ولو كانوا لا يعقلون وقوله ولو كانوا لا يبصرون ) وصلية دالة على المبالغة في الأحوال وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض .
ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة ( لو ) مضمونها ضد الجملة التي دخلت عليها ( لو ) فيقال هنا : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون .
ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم . فمعنى ( لا يعقلون ) ليس لهم إدراك العقول أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطبه واستدلال بملامحه .
A E وأما معنى ( لا يبصرون ) فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها . وهو الذي فسر به الكشاف وهو الوجه إذ بدونه يكون معنى ( لا يبصرون ) مساويا لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب ( لو ) الوصيلة موقعها إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عميا . ومقتضى كلام الكشاف أنه يقال : أبصر إذ استعمل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء . وكلام الأساس يحوم حوله . وأياما كان فالمراد بقوله ( لا يبصرون ) معنى التأمل أي ولو انضم إلى عمى العمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولا لفعل ( يبصرون ) بالوضع الحقيقي أو المجازي . فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق .
وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقابا لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صما وعميا . فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة .
وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالا عن وجه التفرقة بين قوله ( من يستمعون ) وقوله ( من ينظر ) إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني . وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة . وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والأفراد هنا سواء لأن مفاد ( من ) الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصا واحدا .
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ ( من ) ومعناها فلعل الابتداء بالجمع في صلة ( من ) الأولى الإشارة إلى أن المراد ب ( من ) غير واحد معين وأن العدول عن الجمع في صلة ( من ) الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد أن حصل فهم المراد أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي ( يستمع ) ( وينظر ) . ففعل ( ينظر ) لا تلائمه صيغة الجمع لآن حروفه أثقل من حروف ( يستمع ) فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة .
( إن الله لا يظلم شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )