ومعنى ( لي عملي ولكم عملكم ) المتاركة . وهو مما أجري مجرى المثل ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب ( عملي ) و ( عملكم ) ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون كما عبر به بعد .
والبريء : الخلي عن التلبس بشيء وعن مخالطته . وهو فعيل من برأ المضاعف على غير قياس . وفعل برأ مشتق من بريء بكسر الراء من كذا إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به .
وهذا التركيب لا يراد به صريحه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة . وقد جاء هذا المكنى به مصرحا به في قوله تعالى ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) ولذلك فجملة ( أنتم بريئون مما أعمل ) إلى آخرها بيان لجملة ( لي عملي ولكم عملكم ) ولذلك فصلت .
وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدرا كما أتي به في قوله ( لي عملي ولكم عملكم ) إلى الإتيان به فعلا صلة ل ( ما ) الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه . ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد لأن جملة البيان من تمام المبين ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم لأن في ( ما ) في قوله ( مما أعمل ) من المد ما يجعله أسعد بمد النفس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله ( مما تعملون ) ولما في ( تعملون ) من المد أيضا ولأنه يراعي الفاصلة .
وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء .
( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون . ) A E لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين : من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه ؛ كمل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبي A إلى قسمين : قسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته . وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين ؛ فإن سماع كلام النبي وإرشاده ينير عقول القابلين للهداية فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبي أو رؤية هديه مؤذنا ببلوغهم الغاية في الضلالة ميئوسا من نفوذ الحق إليهم وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها فما عدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله ( ومنهم ) في الموضعين فطويت جملة : ولا ينتفعون أو نحوها للإيجاز بدلالة التقسيم . وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر . والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب .
فجملة ( أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ) تفريع على جملة ( من يستمعون إليك ) مع ما طوي فيها . وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبي A وتسلية له وتعليم للمسلمين فقربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صم لا يعقلون في أنهم حرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم .
وبني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صممهم عدم العقل وضموا إلى عماهم عدم التبصر . وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبي A ولا يعقلونها وإذ ينظرون أعماله وسيرته ولا يهتدون بها فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبي إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبو عن ذلك