وجملة ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) استئناف والخطاب للنبي A أو لمن يتأتى منه السماع . والإشارة ب ( كذلك ) إلى تكذيبهم المذكور أي كان تكذيب الذين من قبلهم كتكذيبهم والمراد بالذين من قبلهم الأمم المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به .
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور : أحدها : أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك .
الثاني : التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها .
الثالث : تسلية النبي A بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم .
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطاب النبي A بقوله ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء .
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب .
والنظر هنا بصري .
و ( كيف ) يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام فهي اسم مصدر للحالة والكيفية كقولهم : كن كيف شئت . ومنه قوله تعالى ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) في سورة آل عمران . ف ( كيف ) مفعول به لفعل ( انظر ) وجملة ( كان عاقبة الظالمين ) صفة ( كيف ) . والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين وهي حالة خراب منازلهم خرابا نشأ من اضمحلال أهلها .
ويجوز أن تكون ( كيف ) اسم استفهام والمعنى فانظر هذا السؤال أي جواب السؤال أي تدبره وتفكر فيه . و ( كيف ) خبر ( كان ) . وفعل النظر معلق عن العمل في مفعولية بما في ( كيف ) من معنى الاستفهام .
( ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ) A E عطف على جملة ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) لأن الإخبار عن تكذيبهم بأنه دون الإحاطة بعلم ما كذبوا به يقتضي أن تكذيبهم به ليس عن بصيرة وتأمل . وما كان بهاته المثابة كان حال المكذبين فيه متفتوتا حتى يبلغ إلى أن يكون تكذيبا مع اعتقاد نفي الكذب عنه ولذلك جاء موقع هذه الآية عقب الأخرى موقع التخصيص للعام في الظاهر أو البيان للمجمل من عدم الإحاطة بعلمه كما تقدم بيانه في قوله ( بما لم يحيطوا بعلمه ) .
فكان حالهم في الإيماء بالقرآن كحالهم في اتباع الأصنام إذ قال فيهم ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) فأشعر لفظ ( أكثرهم ) بأن منهم من يعلم بطلان عبادة الأصنام ولكنهم يتبعونها مشايعة لقومهم ومكابرة للحق وكذلك حالهم في التكذيب بنسبة القرآن إلى الله فمنهم من يؤمن به ويكتم إيمانه مكابرة وعداء ومنهم من لا يؤمنون به ويكذبون عن تقليد لكبرائهم .
والفريقان مشتركان في التكذيب في الظاهر كما أنبأت عنه ( من ) التبعيضية وضمير الجمع عائد إلى ما عادت إليه ضمائر ( أم يقولون افتراه ) فمعنى يؤمن به يصدق بحقيته في نفسه ولكنه يظهر تكذيبه جمعا بين إسناد الإيمان إليهم وبين جعلهم بعضا من الذين يقولون ( افتراه ) .
واختيار المضارع للدلالة على استمرار الإيمان به من بعضهم مع المعاندة واستمرار عدم الإيمان به من بعضهم أيضا .
وجملة ( وربك أعلم بالمفسدين ) معترضة في آخر الكلام على رأي المحققين من علماء المعاني وهي تعريض بالوعيد والإنذار وبأنهم من المفسدين للعلم بأنه ما ذكر ( المفسدين ) هنا إلا لأن هؤلاء منهم وإلا لم يكن لذكر ( المفسدين ) مناسبة فالمعنى : وربك أعلم بهم لأنه أعلم بالمفسدين الذين هم من زمرتهم .
( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريؤن مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) لما كان العلم بتكذيبهم حاصلا مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل أي الاستمرار على التكذيب . وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبت لصدق الرسول A الذي أتى به أي إن أصروا على التكذيب بعد ما قارعتهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تبرؤوا منك