والإحاطة بالشيء : الكون حوله كالحائط وقد تقدم آنفا في قوله ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) . ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه . ومنه قوله تعالى ( ولا يحيطون به علما وقوله وأحاط بما لديهم ) أي علمه فمضى ( بما لم يحيطوا نعلمه ) بما لم يتقنوا علمه .
والباء للتعدية . وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المحاط به وهو المعلوم وهو هنا القرآن . وعد عن أن يقال بما لم يحيطوا به علما أو بما لم يحط علمهم به إلى ( بما لم يحيطوا بعلمه ) للمبالغة إذ جعل العلم معلوما . فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا علمه أشد إتقان فلما نفي صار لم يحيطوا بعلمه أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر علم أدلته ثم إعادة التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم . وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل .
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه . وأنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا . ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت : فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب . ونظير هذه الآية في سورة النمل ( قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ) .
A E وجملة ( ولما يأتهم تأويله ) معطوفة على الصلة أي كذبوا بما لما يأتهم تأويله . وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأناة والتثبت أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل .
والتأويل : مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء . وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرا يظهر المعنى فيؤول واضحا بعد أن كان خفيا ومنه قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) الآية . وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير . وقد مر في سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير . ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة كما في قوله تعالى ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) وقوله ( هل ينظرون إلا تأويله ) أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب . والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد أي لما يأتهم تأويل ما يدعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها مثل حكمة التشريع ووقوع البعث وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين وتنزيل القرآن منجما ونحو ذلك . فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله . ولو آمنوا ولازموا النبي A لعلموها واحدة بعد واحدة . وأيضا لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلا على الكذب كما قالوا ( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ظنا أنهم إن استغضبوا الله عجل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلا على أن القرآن ليس حقا من عنده . وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق كقولهم ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) الآية . ولو أسلموا ولازموا النبي A E لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضلال .
وعلى الوجهين فحرف ( لما ) موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقع الوقوع ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد فهي بذلك وعد وأنه سيحل بهم ما توعدهم به كقوله ( يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ) الآية . فهي بهذا التفسير وعيد