وقوله ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ) إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون إلهتهم . وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح والأرواح مراد منها الاهتداء فالمقصود الأعلى هو الهداية . وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطأ وهو جانب الله تعالى فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري فاتباعه واجب عقلا واتباع غيره لا مصحح له إذ لا غاية ترجى من اتباعه . وأفعال العقلاء تصان عن العبث .
وقوله ( أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) أي الذي لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع .
والمراد ب ( من لا يهدي ) الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء كما قال إبراهيم ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) .
وقد اختلف القراء في قوله ( أمن لا يهدي ) فقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بفتح التحتية وفتح إلهاء على أن أصله يهتدي أبدلت التاء دالا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى إلهاء الساكنة " ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع وإلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح إلهاء مختلسا بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافا في القراءة " .
وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب بفتح الياء وكسر إلهاء وتشديد الدال على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على إلهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر الياء وكسر إلهاء بإتباع كسرة الياء لكسرة إلهاء . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وسكون إلهاء وتخفيف الدال على أنه مضارع هدى القاصر بمعنى اهتدى كما يقال : شرى بمعنى اشترى .
والاستثناء في قوله ( إلا أن يهدى ) تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده . وأريد بإلهدي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان الا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية ورمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في ( لا يهدي إلا أن يهدى ) .
A E وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل ( إلا أن يهدى ) بمعنى إهداء العروس أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها فيقال : هديت إلى زوجها .
وجملة ( فمالكم كيف تحكمون ) تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال . واتباعهم هو عبادتهم إياهم .
ف ( ما ) استفهامية مبتدأ ( ولكم ) خبر واللام للاختصاص . والمعنى : أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلا من مكان إلى مكان .
وقول العرب : مالك ؟ ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه . وفي الحديث أن رجلا قال للنبي A دلني على عمل يدخلني الجنة فقال الناس " ما له ! ما له ! " فقال رسول الله A " أرب ما له " . فإذا كان المستفهم عنه حالا ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد " مل له " كما وقع في الحديث .
وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال : ( ما لكم ) : كلام تام أي أي شيء لكم في عبادة الأوثان .
قال ابن عطية : ووقف القراء " فما لكم " ثم يبدأ " كيف تحكمون " .
وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى ( ما لكم لا تناصرون فما لهم عن التذكرة معرضين ) ولذلك قال بعض النحاة : مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي .
وجملة ( كيف تحكمون ) استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة ( ما لكم ) من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب .
ولك أن تجعل هذه الجملة دليلا على حال محذوفة .
( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون )